في الوثيقة البيضاء سجّل سموّ الأمير الدندراويّ الثالث رؤية مؤسّس الأسرة الدندراويّة السلطان الدندراويّ الأوّل للإسلام وللإصلاح. وفي أصداء الوثيقة أبذل الجهد لتأصيل هذه الرؤية ولتبيانها.. فأرجعُ إلى أصولنا الإسلاميّة المُجْمَع عليها من الجميع لأدلّلَ على صحّة الأسس التي تأسّس عليها جمعنا الدندراويّ. كما أقلّب أحداث تاريخنا الاجتماعيّ، القديم والحديث، لأبيّـن - عقلاً وواقعاً - ضرورة قيام هذا الجمع، أو أي جمع آخر يألف ويؤلف، ويكون أرضاً وسطاً تتآخى على ساحته تجمّعات الأمّة على تنوّع مناهجها الفكريّة وأساليبها الإصلاحيّة.
لقد اعتمدتُ منهجيّة التأصيل لا التأويل في مقاربتي للكتاب الأوّل من الوثيقة البيضاء، مع وعيي لأربعة أمور، وهي أنّ هذه المنهجيّة هي إلزاميّة وأن لها مزايا ومحاذير في آنٍ معاً:
1 - التأويل منهجيّة مستبعَدة: على الرغم من طغيان النهج التأويليّ في التآليف المعاصرة، إلا أنّه هنا مستبعَد على الباحث وذلك لسببين: السبب الأوّل لغويّ، إنّ سمو الأمير الدندراويّ الثالث حرص أثناء تدوينه للوثيقة البيضاء على استخدام لغة مُحْكَمة يتطابق فيها اللفظ مع معناه [أنظر الوثيقة ص 13]. والسبب الثاني غائيّ ، وهو أنّ النص المعطى مراد لذاته ولا يضمر أيّ نيّة يُكشَف عنها بلعبة التأويل.
2 - التأصيـل منهجيّـة إلزاميّـة: إنّ العودة إلى الأصل هو وحده الذي يعطـي - إسلاميّاً - المشروعيّة لأي تكوين إنسانيٍّ معاصر أو لمطلق تأسيس لكيان اجتماعيّ راهن، لذا يظهر أنّ المنهجيّة التأصيليّة هي شبه إلزاميّة لتأكيد المشروعيّة.
3 - مزايا التأصيل: من أبرز مزايا التأصيل أنّه يحفظ أصداء الوثيقة من أن تكون حجاباً على الوثيقة البيضاء. بل العكس تصبح أصداء بمثابة مفتاح لقراءة الوثيقة وفهمها. وذلك لأنّ التأصيل هو اجتهاد في الكشف عن الفهم العامّ المشترك الذي تتّفق العقول عليه، والموجود في النصوص الأصليّة الإسلاميّّة، بخلاف التأويل الذي هو وجهة نظر خاصّة وفهم خاص دون الرجوع إلى النصوص الأولى.
4 - مخاطر التأصيل: إنّ التأصيل هو عمليّة محفوفة بالخطر لأسباب عدّة نذكر منها سببين: السبب الأوّل ، قد ينزلق أصحاب هذا النهج أثناء تفتيشهم عن أصول فكرة - أو جذور فكر - إلى تهميش كلّ ما يصدفهم من أفكار مغايرة أو إلى تحويرها أو إزاحتها. والسبب الثاني ، قد يسهم اطمئنان أصحاب هذا النهج إلى صوابيّة نتائجهم في انتقالهم من حال الاقتناع بفكرهم إلى حال الامتلاء به. يمتلئون بالفكر الذي أنتجوه من النصّ إلى حـدّ اعتباره الوحيد المطابق للأصول، الوحيد الصحيح، ويَقَعون في الأحاديّة والانغلاق والتطرّف ورفض الآخر، بل قد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن يعتبروا مطلق رفض لفكرهم المنتَج بمثابة رفض للأصول نفسها وخروجاً عليها، كلّياً أو جزئيّاً.
لذا، اجتهدتُ في أن أغنم منافع منهجيّة التأصيل متجنّبةً أيّ تهميش أو تحوير أو إزاحة، مبتعدةً عن أيّ انحياز أو تطرّف في فهم فكر الآخر، قبوله أو رفضه.. فالأصول الإسلاميّة مفتوحةٌ على تأصيلات تتوالى بحسب احتياجات الزمان والمكان، مفتوحةٌ على قراءات المجدّدين الذين يرسلهم الله سبحانه على رأس كلّ مائة عام ليدلّوا الناس - بالرجوع إلى الأصول - على دائهم الراهن ودوائه. فالمجدّد - صاحب الزمان - لا يغيّر بل يُحيي - بالقول والفعل - الجزء الغائب من النصّ والذي يتسبّب غيابه في خلخلة بناء الفرد وتمزيق وحدة الجمع.
إضافة إلى نهج التأصيل اعتمدتُ نهج التبيين لا التضمين في مقتربي هذا من الكتاب الأول من الوثيقة البيضاء.. وهذا النهج غير موجود ضمن منهجيّات البحث العلميّ، لذا فإنني أضيفه كنهج علميّ وهو مفيد وضروريّ وخاصّةً في الأعمال المشابهة لعملي في أصداء الوثيقة [= قولٌ على القول أو كتابةٌ على الكتابة].
وإرساءً لهذا النهج اجتهدتُ في تبيين الكتاب الأوّل من الوثيقة البيضاء على حسب اقتداري، ففصّلتُ مُجْمَله وأوضحتُ مُفْرَده، ناقشتُ طرحه وتتبّعتُ شرحه. وفي الوقت نفسه، ابتعدتُ عن تضمين سطوري لأيّ نسقٍ فكريّ فلسفيّ مغاير لفضاء الوثيقة حتى لا تتحول الأصداء إلى مُلْصَقَات تتراكم على وجـه النصّ وتطمس قوله.
إنّ الفكر الدندراويّ هو فكر إسلاميّ جديد، لذا لم أرجع في تأصيله وتبيينه إلى مؤلّفات السابقين لأنني من البديهيّ ألاّ أجد فيها الأفكار نفسها، ولذا اكتفيت بالمصادر الأربعة التي سوف أذكرها في الفقرة التالية، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإنني وجدت أنّه من الظلم أن أشبك تبييني للفكر الدندراويّ بمراجع ألّفها من سبقني من الباحثين حتى لا يقع في ظن القارىء أنّ الفكر الدندراويّ مستقىً من الكتب، وأنّه نتاج عمليّة تركيبيّة تأليفيّة عالية الكفاءة.
وعلى حين أنني لم أرجع إلى مؤلّفات السابقين عند التأصيل والتبيين إلا أنّني استعنت بها في تشكيل الأطر والسياقات، التاريخيّة والفكريّة والعلميّة والاجتماعيّة، التي تُظهر أصالة الفكر الدندراويّ وتضعه في موقعه الصحيح في تاريخ الفكر الإسلاميّ.
أمّا المرجعيّات التي استنبطت منها الأدلّة والبراهين لتأصيل وتبيين الفكر الدندراويّ فهي أربع:
1 - القرآن الكريم والحديث الشريف : إنّ القرآن الكريم هو المرجع الأوّل لكافّة المسلمين. يجدون في آياته القول الفصل في كل نزاع مفاهيميّ، والبرهان الأوكد على مطلق فكرة. ولكن، وحيث أنّ القرآن الكريم حمّال أوجه، وينفتح المعنى على استنباطات لا يحقّ لإنسان أن يحدّها، وحيث أنّني أيضاً اعتمدت نهج التأصيل لا التأويل، فقد حرصت على الاستدلال بالقرآن الكريم فيما هو مُحْكَم الدلالة ومُعْطى أوّل وفضاء اتفاق بين الجميع.
وقد جمعت القرآن الكريم والحديث الشريف في أصل معرفيّ واحد لقناعتي بأنّه لا يحقّ لأحد التفريق بينهما في المرجعية، لأنّ القول النبويّ مبيّن ومفصّل للكلام الإلهيّ.
2 - السيرة النبويّة الطاهرة : إنّ النصوص القوليّة معرّضة لتعدّد القراءات، أمّا النصوص الفعليّة [= عندما يكون الفعل هو النصّ] فهي بيّنةُ الدلالة ولا تحتمل التأويل. لذا، فإنّ السيرة النبويّة للشخص الذي كان قرآناً يمشي على الأرض هي مرجعيّة مُحْكَمة لا تحتمل التأويل، مقنعة للجميع ولا نزاع فيها.
ولا ألتفت في هذا المجال لمن يزرع التشكيك بأحداث السيرة النبويّة الطاهرة، بحجّة عدم التثبُّت من الخبر. وذلك، لأنّ حياة محمد رسول الله هي مصدر علميّ عالي الكفاءة، وهي المصدر الأهمّ لفهم الإسلام. إنّ الحياة النبويّة هي التي نقلت الإسلام من حيّز الوجود النصّي إلى حيّز الوجود الإنسانيّ الواقعيّ.
3 - المعيوش : لقد اعتبرتُ المعيوش مصدراً معرفيّاً ومرجعيّة هامّة في التدليل على فكرة معيّنة، وقسّمت المعيوش إلى قسمين:
قسم أوّل : هو المعيوش الأساسيّ ويتمثّل بحياة الصحابة الكرام . إنّ عمل الصحابة الكرام زمن الحياة البشريّة لمحمد رسول الله هي برهان يقينيّ على معتقدات الإسلام. فكلّ عمل قام به صحابيّ في حضرة النبي أو بإذنه أو بأمره هو دليل على معتقد إسلاميّ حتى لو كان عملاً آحادياً.
وقد ساعدتني حياة الصحابة في الكشف عن ثلاثة أدلّة في وقت واحد:
فهي - أوّلاً - تدلّنا على كيفيّات فعل ما.
وهي - ثانياً - تقول للجميع بأنّ النصوص الإسلاميّة قابلة للحياة وممكنة التطبيق.
وهي - ثالثا ً - تمثّل المعرفة العامّة في العصر، تمثّل الإجماع الفعليّ.
ونأخذ مثلاً نبيّن من خلاله كيف نستنبط من حياة الصحابة هذه الأدلّة الثلاثة على فهم الإسلام وتطبيقه، يقول: لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه التي بين جنبيه ووالده وولده والناس أجمعين : أوّلاً ، قدّمت حياة الصحابة الكرام عشرات الكيفيّات الناطقة بأنّ الكثير منهم أحبّ محمداً رسول الله أكثر من نفسه التي بين جنبيه. إذن، النصّ واحد وكيفية التطبيق مفتوحة. وثانياً ، أعلنت هذه الكيفيّات أنّ المسلم من الممكن أن يحبّ شخصاً أكثر مما يحبّ نفسه التي بين جنبيه. إذن، النصّ ممكن التطبيق قابل للحياة. وثالثاً ، أثبتت حياة الصحابة أنّ هناك معرفة عامّة يعلمها الجميع وهناك إجماع فعليّ .. إذن ، معرفة عامّة لا نخبويّة ولا محصورة بطبقة علميّة محدّدة.
وقسم ثانٍ : هو المعيوش المعاصر ويتمثّل بحياة الناس . وقد ساعدتني حياة الناس وما يجري فيها لأثبت خاصّةً أمراض العصر والفراغ المعرفيّ والعقائديّ حيث يوجدان.
4 - قوانين الطبيعة والمنطق.. ترد إشارة في الوثيقة البيضاء إلى مرجعيّة القوانين الطبيعيّة حين تقول، ص 37: وعلى نحو طبيعة الأشياء . وهذه الإشارة تفتح المجال للاستدلال بالقوانين الطبيعيّة الواقعة تحت اختبار الجميع، ومن الممكن للكلّ أن يتحقّق منها. مثلاً: حين تساءلتُ لماذا جامِع أمّة المسلمين يجب أن يكون شخصاً من البشر ولا يمكن أن يكون كتاباً [القرآن] أو فكرة [فكرة التوحيد]؟. وبيّنت كيف أنّ القوانين الطبيعيّة والقوانين الإنسانيّة تتماثل، وأنّ المحور فـي كلّ منظومة لابدّ من أن يكون من نفس طبيعة أجزاء المنظومة.
إضافة إلى قوانين الطبيعة استندت إلى قوانين المنطق، واحتكمت إلى المعقول العامّ، تماشياً مع الفكر الدندراويّ الذي يخاطب الإعقال ليُدْرِك، ويخاطب الإرادة لتلتزم.
لقد وضعتُ مخطّطات عديدة متوالية لأصداء الوثيقة البيضاء، فمرّةً وجدت أنّه من الأفضل أن أقسّم الكتاب إلى قسمين كبيرين، هما: النظريّة والتطبيق. ومرّةً قسّمته إلـى ثلاثة أقسام، هي: النظريّة والتطبيق والمساءَلة. ومـرّةً قسمته إلى أربعة أقسام… وهكذا كنت أقسّمه أبواباً وفصولاً وفي كل مرّة كنت أجد أنّ التقسيم لا يرضيني لأسباب لم أتمكن من تحديدها. إلى أن تبدّى لي السبب الذي كان يحرّك تقسيمي وعدم رضائي معاً، وهو أنّني كنت أفكّك الوثيقة البيضاء إلى الإشكاليّات التي تطرحها أو المطروحة فيها ثمّ أصيغ هذه الإشكاليّات المفردة في منظومة تخصّني. بحيث أنّه من يقرأ أصداء الوثيقة ينتقل إلى فضاء آخر له اتّصال بفضاء الوثيقة ولكنّه غير موصول به.
وأخيراً أبدعتُ مخطّطاً أظنّه غير مسبوق، لأنّني لم أجده في كتاب ولم أعرف أحداً نوّه إليه عند سرد منهجيّات البحث العلميّ. وهذا المخطّط أسميته المخطّط المرآتيّ [مشتقّ من مرآة]، أو المخطّط المحاذاتيّ [نسبة إلى محاذاة] أو المخطّط الضفافيّ [نسبة إلى ضفّة] أو المخطّط الحافّيّ [نسبة إلى حافّة].
ويتلخّص هذا المخطّط بأنّه غير مستقلّ عن الوثيقة البيضاء بل يتبعها كيفما اتّجهت في جانب العلوم الإنسانيّة: إنّه يرتفع كالمرآة، سطوره عبارة عن صفحة عاكسة لا صورة كامنة فيها أو ظاهرة تشوّش ما يتبدّى فيها من حقائق الوثيقة البيضاء. إنّ الناظر في صحائف أصداء الوثيقة لن يجد إلاّ صورة الوثيقة البيضاء، لأنّها مرآة. وأسأل الله سبحانه أن تكون مرآة صادقة لا نتوء فيها ولا تقعير يغيّر من شكل الحقيقة.
كما أنّ هذا المخطّط يسمح لأصداء الوثيقة بعلاقة مميّزة بالوثيقة البيضاء هي علاقة النهر بحافّته المحاذية له. فالحافّةُ محاذيةٌ للنهر حَافَةٌ به مُصَاحِبَةٌ ولصيقة، كما أنّه ليس في طاقتها أن تحدّد النهر بل النهر هو الذي يحدّدها ويسير بها ويسيّرها برفقته، ويمنحها حَظّين: حَظّ أن تكون صُفّةً [بالصاد] يُشْرَف منها على علومه لكلّ قاصد علمه، وحَظّ أن تكون ضُفّةً [بالضاد] تُنْهَل منها معارفه لكلّ عازم على عرفانه.
لقد واجهتني صعوبات كثيرة أثناء عملي في الوثيقة البيضاء، صعوبات مرهقة ومحفّزة في الوقت نفسه. ووجدتني بعد أن كنت العالمة في كثيرٍ من أعمالي السابقة أتحوّل إلى متعلّمة عالمة معاً، إلى مستقبلة ومرسلة للمعرفة معاً.. تفتح كلمات الوثيقة البيضاء ملفّات كثيرة وتمنحني الرؤية، فأصبح متعلّمةً منها وعالمةً فيها معاً. ومن أبرز الصعوبات:
1 - حجاب المفاهيم المستقرّة.. إنّ المفاهيم المستقرّة توجّه التفكير وجهةً خاطئة، وفي الوقت نفسه تملأ الإعقال وتمنعه من استقبال التصوّرات السليمة. إنّنا عادةً نفهم ما نقرأ لا انطلاقاً مما نقرأ فقط، ولكن من تفاعل ما نقرأ مع ما نعرف سابقاً. وحيث إنّ المعارف السابقة هي أدوات فهم وإدراك، فإنّها إن كانت مغلوطة تُحدث انزياحاً في الإدراك. وأعطي مثالاً على ذلك للتوضيح: لقد رسخ في أذهاننا أنّ المجتمع الإنسانيّ مؤلّف من طبقات اجتماعيّة، وينتج عـن هذا المفهوم المستقرّ لدينا أنّنا نقرأ كلّ نصّ في المجتمع على قاعدة الطبقات. وهذا ما حدث معي، ولوقت ليس بقصير، فإنّني كنت أقرأ النصوص الراسمة للمجتمع الإنسانيّ في الوثيقة البيضاء على أنّه طبقات اجتماعيّة، وخاصةً أنّ لفظ طبقات يرد في الوثيقة البيضاء عند الكلام على المجتمع. ثمّ، وفيما يشبه الالتماع المعرفيّ، رأيتُ صورة المجتمع الإنسانيّ كما تصفه الوثيقة البيضاء فإذا هو عبارة عن فئات اجتماعيّة لا طبقات اجتماعيّة.
والفرق شاسع بين التصوّرين؛ فالتصوّر الطبقيّ للمجتمع يجعل الطبقات أفقيّة تعلو واحدة فيه الأخرى، أما التصوّر الفئاتي للمجتمع فهو يجعل الفئات عامودية متقابلة وبالتالي تتحقّق مساواة إنسانيّة بين أبناء طبقتين متفاوتتين. وليس المجال هنا لتوضيح الرؤية الدندراويّة للمجتمع الإنسانيّ، بل الهدف ممّا نقول هنا هو التدليل على موانع الرؤية الناتجة عن المفاهيم المستقرّة. وأظنّ أنّ الهدف قد تحقّق بما أوردنا(*).
2 - لغة الوثيقة البيضاء المكثّفة.. لقد كتب سموّ الأمير الدندراويّ الثالث الوثيقة البيضاء بلغةٍ مُحْكَمَة ومكثّفة في آن. فهي مُحْكَمَة بحيث يتحوّل كلّ لفظ فيها إلى اصطلاح ولا يمكن إبداله بلفظ غيره. وهي مكثّفة لأنّها مبنيّة على الإضافات بحيث تختزل العبارة الاصطلاحيّة جملة تصوّرات في وقت واحد. مثلاً العبارة الاصطلاحيّة: نصوص أحكام أداء مسلك السُنّة المحمّديّة القويم . إنّها عبارة واحدة بل كلمة واحدة مركّبة عند أهل اللغة، وفي الوقت نفسه تتألّف من سبعة تصوّرات ضُمّت إلى بعضها البعض لتؤلّف معنىً واحداً. وأمثال هذه العبارة كثير في الوثيقة البيضاء.
وقد نتج عن هذه الكتابة المُحْكَمة والمكثّفة أنّني كنت أضطرّ بهدف إيفائها حقّ المصاحبة الذي أشرت إليه عند كلامي على المخطّط الضفافيّ المرآتيّ، أن أواكب صفحات أربعَ مثلاً من الوثيقة بمئة صفحة من أصداء الوثيقة. هذا مع الحرص الشديد على عدم تفريع الموضوعات أو إلصاق موضوعات بعيدة الصلة بالنصّ.
3 - نصّ الوثيقة مجدولٌ بعلوم إنسانيّة متعدّدة لا يجمعها اختصاصٌ علميٌّ واحد.. في زمن ساد فيه الاختصاص العلميّ في كافّة الميادين تضعنا الوثيقة البيضاء في مواجهة العقل الكلّيّ غير المجزّء إلى اختصاصات، ونسترجع معها الامتلاء بالمعرفة العامّة لا المعرفة الجزئيّة المتخصّصة المتحيّزة .
ولكن هذه الميزة العظيمة مُكْلِفَة جداً عند العمل، لأن عالِم اليوم لا يحيط بكلّ هذه العلوم.. وحيث أنّني صاحبة اختصاص في الفلسفة العامّة والفلسفة الإسلاميّة وعلم التصوّف، ويشمل اختصاصي علم العقيدة وعلم أصول الفقه مع إطلالة على فلسفة اللغة وفلسفة التاريخ والاجتماع والحضارة، إلاّ أنّني وجدت نفسي مضطرّة إلى القراءة في حقول علميّة متعدّدة لأستطيع أن أواكب الوثيقة البيضاء. وأعطي مثالاً توضيحيّاً لما ذهبت إليه، مثلاً: في الباب الأوّل اضطررت إلى قراءات موسّعة حول القرن التاسع عشر الميلاديّ للكشف عن العقل الإصلاحيّ الإسلاميّ والعربيّ. وفي الباب الثاني رجعت إلى علم العقيدة وعلوم السلفيّة وعلوم الصوفيّة وكتب السيرة النبويّة وحياة الصحابة وغير ذلك كثير. وفي الباب الثالث ، ومن أجل استبانة التاريخ الاجتماعيّ لأمّة المسلمين اضطررت إلى قراءات كثيرة تاريخيّة إضافةً إلى قراءات في علم الاجتماع نظراً لأنّ رؤية السلطان الدندراويّ للأمّة وكذا رؤيته للمجتمع هما إسهام علميّ جديد يتطلّب من الناظر فيهما وضعهما في السياق العلميّ العامّ. وأيضاً في الباب الثالث اضطررت إلى قراءات في علم النفس نظراً لأنّ الرؤية الدندراويّة تقدّم جديداً في مسألة تشقّق الذات الإنسانيّة، وتنقل التفكّر من التفكّر في مكوّنة النفس إلى التفكّر في الذات الإنسانيّة الواحدة. وفي الباب الرابع ، وحتّى أتمكّن من تبيان المعالم والعلامات اتّجهت إلى كتب فلسفة اللغة لأنّ أصحابها كشفوا عن وجود لغتين، لغة منطوقة ومكتوبة ولغة غير منطوقة تدلّ بالرموز والإشارات.