مدخلُ اللبيب للارتباط بالحبيب.. صلوات الله عليه.

   الإِسْلَامُ حَيَاتُنَا والسَّلَامُ مَعَاشُنَا    نحن نَعْلَمُ بالسياسة ولا نَعْمَلُ بالسياسة    حَرْبُنَا مَعَ أَعْدَاءِ الوَحْدَانِيَّةِ مَيْدَانُهَا الفِكْرُ وسِلَاحُهَا الكَلِمَةُ   جِهَادُنَا اجْتِهادٌ فِي العِلْمِ وجَهْدٌفِي العَمَلِ

مدخلُ اللبيب للارتباط بالحبيب.. صلوات الله عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخلُ اللبيب للارتباط بالحبيب.. صلوات الله عليه.

 

نجول ببصرنا في بلادٍ قريبةٍ وبعيدة.. بلادٍ شهدت حروباً أهلية، وحروباً حدودية، ولكن ما إن تنطفي نيران الحرب حتى يبدأ الترميم وإعادة الإعمار.. ولا تكاد تنقضي سنواتٍ قليلةٍ حتى نمشي في شوارع هذه البلاد وأسواقها، ولا أثر لحرب أو لدمار إلا في الذاكرة والصُّور.

وفي المقابل، نجد أشخاصاً لم يخوضوا حرباً مسلَّحةً، ولكن مصادمات معترك الحياة والناس، زلزلت تكوينهم الإنساني، فتناثرت مكوناتهم الذاتية وتهالكت، وتبعثرت مرئياتهم الشخصية وتهاوت، مما قد يحتاج معه الواحد منهم إلى عمره كله – أحياناً – لترميم دمار ذاته وإعادة إعمارها.

ولا نقول هذا إدانةً – والعياذ بالله – أو تقليلاً من حجم تحديات الحياة وخاصة لجيل الشباب.. بل نسلّم معهم بالعقبات الحياتية الكبرى: البطالة، عدم الحصول على عمل مناسب، الأزمات الاقتصادية والتضخم، المشاكل الاجتماعية والعائلية، صعوبة الزواج، الأنانيات، صراع المصالح، الفساد.. ألف سببٍ وسبب وكل سببٍ منها كافٍ لزلزلة الإنسان.. ولكن ما لا نستسيغه، ونرى من واجبنا التنبيه إليه، هو أن يستسلم الإنسان لمطارق الدمار الذاتي، يستسلم للهواجس والوساوس والإحباط واليأس والأفكار السوداء والقلق الَمَرضي على المصير والخوف من كل شيءٍ والشعور باللاقيمة وباللامعنى للحياة… ونقول له: إن أردت تحسين ظروفك ونوعية حياتك والصمود في معركة الحياة والناس، فلتبدأ ببناء ذاتك وتحصينها..

ومن المنظور الدندراوي، فإن بناء الإنسان المسلم بناءً صلباً متماسكاً، فاعلاً متفاعلاً، بما يحقق صلاح نفسه وأهله وحياته وظروفه وعلاقاته مع محيطه، هو نتاج ارتباطه بشخص سيد البشر محمدٍ رسول الله، عليه صلوات الله. ومن هنا، نجعل كلامنا على خمس وقفاتٍ، نستبين منها معنى الارتباط وضرورته، وكيفيته، وضوابطه، وخطاه، ومفاعيله.

 

الوقفة الأولى.. لماذا الارتباط بشخص سيد البشر محمد رسول الله، عليه صلوات الله؟

إن هذا السؤال يحظى بعشرات الأجوبة، ومعظمها يصدر عن ملاحظة الآثار الطيبة للارتباط على شخص المرتبط وحياته وحياة من حوله.. ولكننا نريد أن نذهب إلى أبعد من ذلك، إلى أصل الارتباط ومنشئه، لذا نطرح السؤال الأكثر دقّةً: لماذا يتعيّن علينا، وعلى كل مسلمٍ، أن يرتبط بشخص سيد البشر صلوات الله عليه؟ وأكتفي بجوابين، أرى أنهما يبرهنان على أن المسلم لا يكمل دينه ولا يكون في القرب القريب من ربه جل وعلا، إلا إن ارتبط بشخص المصطفى المجتبى صلوات الله عليه.

وأقول في الجواب الأول؛ إن كلمة “الارتباط” لم ترد بلفظها في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف، ولكن وردت بمعناها. ومعنى أن ارتبط بشخص سيد البشر صلوات الله عليه، هو أن أقوم بفعلين متلازمين: الفعل الاول، أن أؤمن بأن الذات النبوية هي ذات متفردة،فأتأسّى بها عند صياغة مكوناتي الذاتية (البدن والروح والنفس والعقل)، وذلك لإكسابها الفاعلية. والفعل الثاني، أن أنتمي إلى الذات النبوية المتفردة، إلى الشخص الذي لم يقل: نفسي نفسي، بل قال: أمتي أمتي، وأدخل في عداد أمته صلوات الله عليه، جاعلاً مرئياتي الشخصية عند أي تفاعل إنساني (تفاعلٍ فكري أو طبقيٍّ أو عرقيٍّ أو إقليمي) تبعاً لما صنعه لي صاحب الأمة وزعيمها الجامع.. صلوات الله عليه.

والأدلة على فَرْضيّة هذا الارتباط، الباني للإنسان والجامع للأمة، بفعليْه: الإيمان والانتماء، كثيرةٌ وظاهرة في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف.. والشواهد على هذا الارتباط من حياة جيل الصحابة الكرام لا تُحصى .. وهكذا فالارتباط بالرسول المصطفى والزعيم المجتبى صلوات الله عليه هو ضروري لـ: كمال الدين.

أما الجواب الثاني؛ فنحن قومٌ آمنا بالله جلّ وعلا، وأنصتنا إلى القرآن المجيد الذي يخبرنا عن ربنا سبحانه وأسمائه الحسنى.. فأحببناه. وعَلْمِنا من القرآن الكريم، أن الله سبحانه يحبّ أشخاصاً لصفاتٍ قامت بهم (التوابين، المتطهرين..)، ويحب أشخاصاً لتكوينهم المحمدي المكتسب باتباع حبيبه صلوات الله عليه، لا لصفةٍ مخصوصةٍ قامت بهم. يقول تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران/31)

إن رسولنا الكريم صلوات الله عليه هو “حبيب الله”، ونحن مهما اجتهدنا في الاتّباع، فلن نكون مثله صلوات الله عليه، لأنه ليس كمثله بشر.. ولكن نكون على صورة صفات الكينونة الذاتية لمن يحبه الله، صلوات الله عليه.. نكون أصحاب تكوينٍ محمدي.. أصحاب تكوين موعودين بحب الله جلّ وعلا.. وهكذا فالارتباط بشخص حبيب الله، عليه صلوات الله، هو: سبيلٌ لحبّ الله.

الوقفة الثانية.. كيفية الارتباط

إن الأنا _أنا الذات_ في كل واحد منا، تمتلك “حدقة العين” التي ينظر بها إلى داخله الإنساني وإلى الخارج الاجتماعي. وطوال ملكية أنا الذات لحدقة العين، فإن الانسان يتحرك وينفّذ ويُمضي ما يصبّ في مصلحته ومصلحة عائلته أو جماعته، وفيما يسكّن مخاوفه على ذاته.. باختصار، إن الانسان منا – لو تُرك لهواه – لا يجد أفضل وأقدر، بل أحرص من “أناه” لحفظ مصالحه وكيانه ومصيره.

هذا الانسان الذي تتحكم “أناه” في مساحة وجدانه وفي مسافات وجوده، هو مرتبط بـ”أناه”. ولكن متى اقتنع بأن الارتباط بشخص الرسول المصطفى والزعيم المجتبى، صلوات الله عليه، هو ضروري لكمال الدين وسبيلٌ لحبّ رب العالمين، فإنه سوف يخلع “أناه” وهواه، ويسلّم “حدقة الرؤية” ويملّكها لصاحب الحق بالسيادة على الداخل الانساني وبالزعامة على الخارج الاجتماعي.. صلوات الله عليه.

وهكذا، فعندما ينظر “مَنْ مَلّك حدقة عينه” لشخص رسول الله عليه صلوات الله، إلى أعماقه أولاً؛ فإنه سوف يجعل هواه تبعاً لما جاء به ويرضيه صلى الله عليه وسلم. وفي الوقت نفسه، فإنه –ثانياً- حينما يتعامل مع الخارج الاجتماعي فإن كل مرئياته وكل مخرجات ذاته سوف تُسهم برفع بنيان المجتمع، وبتلاحم البنية البشرية التي يشكل هو جزءاً متفاعلاً وحيوياً منها. وعندها سوف يدرك بأن الأمر دورياً بين مصلحته ومصلحة الجماعة.. وأنه كلما كان فاعلاً في مصلحة الخارج الاجتماعي كلما جنى ثمار ذلك على صعيد مصلحته الشخصية.

الوقفة الثالثة.. ضوابط الارتباط

إن خَلْع “الأنا” ليس بالأمر الهيّن، وقد لا يتمّ دفعةً واحدةً.. فقد ترجع “الأنا” مقنّعةً ومتستّرةً، كأن تُوهم صاحبها – الذي قرّر الارتباط وباشر به – بأن صدامه مع الآخر، وربما قطيعته معه، هو من جنس الكرامة الانسانية المحمودة والمشروعة، وليس كبراً ممقوتاً يدمر الروابط الإنسانية.. ولذا، فلا بد للإنسان من ضوابطَ كاشفةٍ، يزن بها فاعليات مكوناته في الداخل الإنساني، وتفاعلات مرئياته في الخارج الإجتماعي. والمهم، ألا يخاف إن وجد ما يكره، بل ينهض ويُحكم ضبط ارتباطه لتستقيم مسيرته الذاتية والجماعية.

  • ونبدأ بالضابط في الداخل الانساني، في مساحة الوجدان، لنجد أن “السيادة المحمدية الشاملة” هي الضابط، وهي المرجعية التي نزن بمقاصدها كل شيء يتولّد داخلنا: الأفكار، الخطرات، الظنون، المشاعر، المخاوف، الهواجس، الانفعالات..نزن كل شيء قبل أن يخرج إلى دنيا الناس ويُترجم في أقوال وأفعال.

ويتم الوَزْن بأن لا نرضى من الداخل الانساني دليلاً جزئياً من النصوص القدسية، تتترّس به “الأنا” “لتفتي” لنفسها تبعاً لهواها، وترتكب (من الظلم أو الأذى…) ما يعلم القلب يقيناً أنه يتناقض مع مقاصد الشريعة ومقاصد سيد الموحدين صلوات الله عليه. وليضع الواحد منا نصب عينيه: أن من مقاصد “السيادة المحمدية الشاملة” في امتلاكها لوجدان الانسان، هي صياغة مكوناته الذاتية بشكلٍ يجعل منه إنساناً نظيفاً، شفافاً، خلوقاً، مستنيراً، قوياً، فاعلاً، مؤثراً في محيطه القريب والواسع، غير راكنٍ إلى حقٍ شرعي يأتيه من ولدٍ أو قريبٍ، وغير مستكين تحت ظرفٍ ظالم (من رئيسٍ بالعمل أو أي شخص له سلطه عليه…) عاداً هذا الظرف بلاءً من الله سبحانه، يقابله بالتواكل وعدم النهوض للتغيير… وغير ذلك، من الافكار والخواطر التي تحرّف فاعلية الإنسان أو تعطّل كفاحه في سبيل حياةٍ أفضل، في ظل السيادة المحمدية الشاملة على وجدانه.

  • ونثني بالضابط في الخارج الاجتماعي، في مسافة الوجود، لنجد أن “الزعامة المحمدية الجامعة” هي الضابط، وهي المرجعية التي نزن بمقاصدها كل تفاعلٍ يصدر عنا في تعاملنا مع تنويعات محيطنا الإنساني وتعدديته، بل مع العالم كله؛ بشراً وحيواناً وجماداً وبيئةً طبيعية.

ويتم الوَزْن بأن لا نرضى عن أي تفاعل تمليه علينا مرئياتنا الشخصية، وإن حشدت لتبرير فعلها الأدلة والبراهين.. إلا بعد أن ننظر في هذا التفاعل ونعرضه على مقاصد الشريعة ومقاصد زعيم المسلمين صلوات الله عليه، ونتأكد من حسن عاقبته على العلاقة بالآخر [تماماً كما يفعل المجتهد في مجال الفقه، فإنه يبني اجتهاده على الأصول ولكن تحت سقف المقاصد]. فإن وجدنا أن هذا التفاعل ينضوي تحت مقاصد الزعامة المحمدية الجامعة، أي يراعي مصلحة الجماعة ويحافظ على وحدة الأمة ولا يفرّقها، أمضيناه. وإن وجدنا هذا التفاعل يظلم زوجة وولداً، أو يحاكم أخاً لنا ويصنّفه فيما بينه وبين نفسه أو في جلسةٍ مع إخوانه أو عائلته بما يخلخل الصفوف، أو يقصي طائفةً من المسلمين ويعاديها لفكرها المختلف، رددناه، وأعدنا النظر في صحة انتمائنا إلى الذات المحمدية المتفردة.

وهكذا فإن الارتباط بشخص رسول الله عليه صلوات الله، يكون صحيحاً، غير موهوم وغير ظني.. عندما يملّك المرتبط حدقة رؤيته لسيد الوجدان الحريص على ذات الإنسان، ولزعيم الوجود الحريص على وحدة الأمة، صلوات الله عليه.

الوقفة الرابعة.. خطى الارتباط.

إن خطى الارتباط أربع، وترتيبها ينسجم مع منطق الأمور. ولكن قد يتحفظ البعض، ويقول: إن الارتباط هو خطوة واحدة، ما إن نخلع أنا الذات عن تسلّطها على مساحة الوجدان ومسافة الوجود، ونسلّم حدقة الرؤية لسيد البشر صلوات الله عليه، حتى يتحقق الارتباط بكل خطاه دفعةً واحدةً. نقول: ربما ما تقوله صحيحاً، ولكن إن تعثر المرتبط في ارتباطه، أو صدف نكسةً ما، عندها يكون بحوزته خارطة، تمكّنه من اكتشاف مواطن ضعفه والعمل على تدعيمها.

وهذه الخطى الأربع هي:

الخطوة الأولى: استيعاب العقل للارتباط.

وتتلخص هذه الخطوة بأن يستوعب عقل الانسان: لماذا يتعين عليه أن يرتبط بشخص رسول الله عليه صلوات الله، ومعنى الارتباط وأنه ارتباطان: إيمان وانتماء، وكيفية الارتباط.. إنها خطوة معرفية تحفّز الإرادة الذاتية وتمدّها بالهمة للارتباط.

الخطوة الثانية: نهوض الإرادة للارتباط.

عندما يقتنع عقل الواحد منا بضرورة الارتباط، تنهض إرادته الذاتية للتنفيذ. وعند استعداد الإرادة لخلع “أنا الذات” يصبح الإنسان حاضراً بكلّه، لأن يعطي العهد والميثاق، للسير على طريق المعية المحمدية المانعة، تحت ظل راية الزعامة المحمدية الجامعة.

الخطوة الثالثة.. صياغة المكونات الذاتية.

عندما يسلّم المرتبط حدقة الرؤية للمصطفى المجتبى صلوات الله عليه، يلتفت أولاً إلى داخله الإنساني، ليصوغ مكوناته الذاتية على صورة صفات الكينونة البشرية لسيد الموحدين صلوات الله عليه.

  • ويبدأ بتحصيل الفاعلية لبدنه، فيحفظه بنظافة إنسانه وبطهارة صلاته، صلوات الله عليه.. فينشط البدن بالعافية.
  • ويثنّي بتحصيل الفاعلية لروحه، فينقيه بكثير أذكاره وبعديد صلواته، صلوات الله عليه.. فينقي الروح بالشفافية.
  • ويثلّث بتحصيل الفاعلية لنفسه، فيهذبها بجمال حركاته وبكمال سكناتها، صلوات الله عليه.. فتسمو النفس بالشمائلية.
  • ويربّع بتحصيل الفاعلية لعقله، فيعلّمه علم قرآنه وتعاليم أقواله، صلوات الله عليه.. فيضيء العقل بالنورانية.

الخطوة الرابعة.. صناعة المرئيات الشخصية.

بعد أن يصوغ المرتبط مكوناته الذاتية يلتفت إلى مرئياته الشخصية التي تتحكم بشبكة علاقاته مع محيطه. ثم يجتهد في أن يجعل مرئياته تصطبغ بصورة صفات الكونية البشرية لزعيم المسلمين صلوات الله عليه.

  • ويبدأ بأن يضبط مرئية عقله ليتفهم تنوع الطائفيات الفكرية، فلا يتشدد لفكره ويهاجم الفكر الآخر، بل يصبح المشارك لكل تجمعات الطوائف الفكرية في مناسباتها وأعيادها واحتفالاتها..
  • ويثني بضبط مرئية نفسه لتستشعر العدالة عند مخالطة الطبقيات على تنوعها، ويتماسك معها ولا ينعزل بطبقته مجافياً باقي الطبقيات .
  • ويثلّث بضبط مرئية روحه ليألف خاصية تعدد القوميات، فيتلاحم مع مجاميعها ولا يتعصب لقوميته ويتعالى على كافة القوميات.
  • ويربّع بضبط مرئية البدن ليتحمل خصوصية تعدد الإقليميات، فيتنقل في عموم الاتجاهات، ولا ينزوي داخل بلدته مستغرباً سائر الإقليميات.

الوقفة الخامسة والأخيرة.. مفاعيل الارتباط.

إن الارتباط بشخص سيد البشر محمد رسول الله، عليه صلوات الله، ليس خيراً مؤجلاً فقط، بل هو خيرٌ معجلٌ  في الدنيا.

وحيث إن الآثار الطيبة للارتباط لا تكاد تُحصى خيراتها، أكتفي بذكر أثر الارتباط في مواضع ثلاثة:

أولاً.. أثر الارتباط على حياة الانسان.

عندما صاغ الإنسان مكوناته الذاتية بارتباطه بسيد الموحدين صلوات الله عليه، أصبح طاقة فاعلةً، مؤهلاً لدخول معترك الحياة: ببدنٍ مترفعٍ عن كل ما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وروحٍ نقي بكثير ذكر الله  واستدامة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفسٍ سمت عن كل أشكال الدناءات، وعقلٍ مضيءٍ بعلم القرآن الكريم وتعاليم الحديث النبوي الشريف.. مواصفاتٍ ومكارم لا تخطئها عينُ ناظرٍ مهما كثُفت غشاوتها.

هذا الإنسان المحمدي التكوين: إن مارس التجارة عافت نفسه المال الحرام، ليقينه بأن الحرام يلوث الحلال ويجري في دم أولاده، فلمس الناس والتجار الفرق بينه وبين غيره، وفضلوا التعامل معه.

وإن أراد الزواج سيجد قبولاً من أهل الفتاة، لأن كل من عاشره أو تعامل معه سيشهد له بحسن المعاملة وحسن الخلق.

وإن شَغَلَ وظيفةً ولسببٍ ما اضطر رب العمل أو صاحب الشركة لأن يخفف من عدد الموظفين، فإنه بما أظهره من أخلاقياتٍ وأمانةٍ في العمل، سيؤمن وظيفةً لنفسه في زمن الكساد والجفاف.

باختصار، إن الارتباط ينعكس على حياة الإنسان في كافة مناحيها، ويمكّنه من المنافسة ومن رعاية مصالحه والمحافظة عليها دون الإضرار بمصالح الغير.

ثانياً.. أثر الارتباط على علاقات الإنسان.

عندما صنع الإنسان مرئياته الشخصية بارتباطه بزعيم المسلمين صلوات الله عليه، أصبح مؤهلاً للعيش في مجتمعٍ تعددي، ومقتدراً على حفظ وحدة أمته.

وهذا الإنسان المحمدي التكوين الذي يقبل الآخر بكل تنويعاته، ويتعامل معه بالمشاركة والتفهم والأنس والاهتمام، يصبح مقبولاً من جميع الأطراف، حتى الأطراف المتنازعة.

وهذا القبول من الجميع يمكنه من أن يقوم بدورٍ فاعلٍ في محيطه، ويحدث فرقاً في مجتمعه، إذ سيلجأ إليه المتنازعون ليكون طرفاً ثالثاً، ويقصده المهتمون لإصلاح ذات البين بين الأفراد أو الجماعات.. باختصار؛ إن الإنسان المحمدي التكوين هو قامة إجتماعية، ومرجعية تتقاطع عندها شبكة العلاقات الإنسانية في محيطه.

ثالثاً.. أثر الارتباط عند الصدمات أو الأزمات.

إن الصدمات واقعة على الناس جميعاً، فلا يخلو إنسان من صدمةٍ في الحياة.. هنا عند الصدمة يظهر أثر الارتباط وما نتج عنه من تكوينٍ إنساني قوي، صلبٍ، مسؤولٍ، قادرٍ على المواجهة، ويحسن التعامل مع الأزمات.

نقترب من الإنسان المحمدي التكوين، المكين في ارتباطه، لنرقب ماذا يفعل مثلاً عندما يواجهه رئيسه في العمل بخصومة؛ فنجده:

1″- يبدأ بقراءة الحدث، ويحلله، ويبحث عن أسبابه، ويتفحّص بإنصاف مسؤوليته ومدى مساهمته بوصول رئيسه إلى الخصومة..

2″- يضبط أقواله، فلا يعبّر بشكل عشوائي ولا يجهر بالشكوى والتَّظلُّم.. وصولاً إلى ضبط خواطره.

3″- يتابع عمله بجهدٍ وإخلاصٍ، ولا يوقف نشاطه تعبيراً عن حَرْدٍ أو استياءٍ من خصومةٍ غير مفهومةٍ بنظره أو غير مبررة..

هذا التعامل المسؤول والمنضبط مع الموقف، هو كاشف لمتانة التكوين المحمدي، لأن المرتبط بشخصه صلوات الله عليه، يعلم يقيناً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوليه بولايته الكاملة، وأن الله سبحانه سيختار له الأفضل والأمثل.. وينتظر بثقةٍ أن يظهر ذلك جلياً في مستقبل الأيام.

وختاماً أقول؛

سرت مقولة بين الناس، بأن نعم الله جل وعلا لا تتم لإنسان في الدنيا.. وكيف يستقيم ذلك والله سبحانه هو الكريم الرحيم، الذي لا تُعدّ نعمه ولا تُحصى؟!

إن النعمة العظمى، هي: الرضى. وذلك أن يكافح الإنسان في الحياة ويكدح بين الخوف والرجاء، ويطلب الأحسن والأفضل من كل شيءٍ بجنديةٍ ومثابرة.. ولكن عند تقسيم الأرزاق من كل شيء، واستعداد الإنسان لاستقبال أعماله، يتعين عليه أن يسأل الله سبحانه أن يعطيه النعمة التي تتم بها النعم، وهي: الرضى.. الرضى عن نفسه، وظروفه، وحاله، وماله، وأهله، وولده..