محاولةُ إرساءِ نهجٍ لفهمِ الحديثِ النبويِّ الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
“الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده”
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحدُ في ألوهيّته والأحدُ في ربوبيّته .. وأشهد أن سيّدَنا محمداً الوحيدُ في سيادته والأوحدُ في زعامته .
محاولةُ إرساءِ نهجٍ لفهمِ الحديثِ النبويِّ الشريف
تتداولُ فئاتٌ متطرفةٌ وعنيفةٌ بعضاً منَ الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ، تُفردُها عن سياقِها، وتتّخذُها ذريعةً لتعتديَ، وتؤذيَ المسلمَ الآخرَ وغيرَ المسلم… وتُوقِعُ في أذهانِ الناسِ أنها إنما تمتثلُ لأمرٍ نبويٍّ عندما تقتلُ وتعيثُ في الأرض فساداً.
والملاحظُ، أن عامةَ المسلمينَ يستنكرونَ هذا الفهمَ الذي ينحرفُ بالقولِ النبويِّ عنْ مقاصده، ولكنهم لا يملكون معرفةً عميقةً ودقيقةً بعلومِ الحديثِ النبويِّ الشريفِ ليدفعوا هذا الفهمَ الخاطئَ. وفي الوقتِ نفسهِ، فإنهم أيضاً لا يمتلكونَ نهجاً واضحاً يمكّنهمْ منْ إنتاجِ معنىً للحديثِ الشريفِ هو أقربُ للصوابِ وأجدى بأن يصحّحَ الفهمَ التحريفيَّ ويدحضُهُ.إذن، يحتاجُ عامةُ المسلمينَ، حتى لا يقفوا مبهوتينَ حيارى عندما يقعُ في أسماعهم ما يشوشُ عليهم سماحةَ الإسلامِ ورحمةَ رسولِ ربِّ العالمين إلى العالمينَ، إلى أحدِ أمرينِ: إما إلى تحصيلِ معرفةٍ تفصيليةٍ بعلومِ الحديثِ الشريفِ، وهذا أمرٌ صعبُ التحقيقِ. وإما إلى تعريفهم بنهجٍ واضحٍ يستطيعونَ تطبيقَهُ في كلِّ مرةٍ يصدم أفهامَهُمْ معنى محرِّفٌ لحديثٍ نبويٍّ شريف.
ولسنا هنا في معرضِ الخوضِ بالدفاعِ عن هذه الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ المتداولةِ– بخبثٍ وغَرَضيّة – من جهةِ الطعنِ في صحتها أو بيانِ علةٍ في إسنادِها.. ولكن سوف نُعملُ التفكّرَ في استنباطِ نهجٍ نستطيعُ تطبيقَهُ، في كل مرةٍ يستشهدُ فيها متطرّفٌ بحديثٍ نبويٍّ لتبريرِ القتلِ والعنفِ وإلحاقِ أنواعِ الأذى والعذابِ بالإنسانيةِ.. نهجٍ يمكّنُنا من فهمِ قولِ رسولِ الله في سياقِ رسالةِ الإسلام ومقاصدِ الشريعة.
أقسمُ كلمتي إلى أربعِ فقراتٍ: في الفقرة الأولى، أحدّدُ وجهةَ الإعقالِ في فهمِ الحديثِ النبوي. وفي الفقرتين الثانية والثالثة، أقدّمُ نموذَجَيْنِ أبيّنُ فيهما مراحلَ عمليةِ الفهمِ عندَ قراءةِ الحديثِ النبويِّ الشريفِ (نموذجاً يحملُ حكمةً، ونموذجاً يحملُ حُكْماً). وفي الفقرة الرابعة، نستندُ إلى فهمِ النموذجَيْنِ المقدّمَيْنِ لاستخلاصِ نهجٍ في فهمِ الحديثِ النبوي الشريفِ، نطرحُهُ أمامَ العقلِ المسلم.
الفقرةُ الأولى:وجهةُ الإعقالِ في فهمِ الحديثِ النبويِّ الشريف.
لابدّ للإعقالِ عند التفكّرِ في حديثٍ نبويٍ شريفٍ من أمرينِ متلازمينِ، وذلك حتى لا يَتَّخذَ وجهةً بعيدةً عن حنيفيةِ الإسلام السمحةِ التي جاءَبها رسول الله ، وهذانِ الأمرانِ هما:الأولُ، أن ينطلقَ التفكّرُ من معرفةٍ صلبةٍ يستطيعُ البناءَ عليها. وثانياً، أن يضعَ لنفسهِ إطاراً كلياً يتحركُ داخلَه.
• ونبدأ مع الأمر الأول(الانطلاق من معرفة صلبة)،ونجدُه في وثيقتِنا البيضاءِ، الكتابِ الثاني الجزءِ الثالث..ونفهمُ منَ النصِّ؛ أنَّ القولَ الصادرَ عنِ النبيِّ المكرّمِ له وجهانِ: الوجهُ الأولُ هو الأقوالُ النبويةُ التي تحملُ الأحكامَ التشريعيةَ في أمورِ الدينِ، ليؤدّيَها المؤمنونَ بأمانٍ. والوجهُ الثاني هو الأقوالُ النبويةُ التي تحملُ الحِكَمَ الحياتيةَ في شؤونِ الدنيا، وتجعلُ المؤمنينَ يعيشونَ حياتهمْ بسلام.
إذن، نستفيدُ مما سبقَ، أنه عند النظرِ في حديثٍ نبويٍّ شريفٍ، نعملُ على دَفْعِ الإعقالِ في وجهةِ البحثِ عن “حكمٍ” أو عن “حكمةٍ” محمولةٍ في الحديثِ النبوي.. وهذه معرفةٌ صلبةٌ يمكنُ البناءُ عليها.
ونستفيدُ مما سبقَ أيضاً، أنه عندَ استنباطِ أيِّ حكمٍ تشريعيٍّ نبويٍّ محمولٍ في حديثٍ شريفٍ يتعينُ علينا أن نحرصَ على أن تجريَ تأديتهُ بأمانٍ، أي دونَ قهرٍ أو إكراهٍ أو ترهيبٍ أو تهديدٍ. والأمرُ نفسُهُ، عند استنباطِ حكمةٍ محمديةٍ في شأنٍ من شؤونِ الدنيا، يتعينُ علينا أن نحرصَ على الاهتداءِ بها لنعيشَ حياتَنا بسلامٍ. وفي إشارةِ الوثيقةِ البيضاءِ إلى أمانِ الدينِ وسلامِ الدنيا، ما يُشعرنا بمقاصدِ الحديثِ الشريفِ وغاياتِه.
• أما الأمرُ الثاني (وضع إطار للتفكّر)، فهو أنْ نعملَ على جمعِ كلامِ النبوةِ، الذي أجراهُ الله جلّ علاه بالعلمِ وبالحكمةِ على لسانِ سيدِ البشرِ محمدٍ رسولِ اِلله عليه صلواتُ الله، في موضوع”مقاصد البعثة المحمدية”.. من مثالِ قوله: “إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ”. وقولِه: “إنّ اللهَ لم يبعثْني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً ولكن بعثني معلِّماً ميسِراً”. وقولِه: “إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقِ”. وقولهِ: “إنما بعثتُ بحنيفيةٍ سمحة”. كما أنَّ رسولَ اللهِ وضعَ إطاراً للمسلمينَ عندما يتصدَّوْنَ للدعوةِ، وهذا الإطارُ هو من الثوابتِ، قال: “إنما بعثتمْ ميسرينَ ولم تُبعثوا معسرين” .
فهذهِ الأقوالُ النبويةُ الشريفةُ، وما يعاضدُها، ليستْ أحكاماً جزئيةً بل هي بمثابةِ المبادىءِ العامةِ والثوابتِ، التي يتعينُ على كلِ مسلمٍ أن لا يخرجَ بوجهةِ إعقالهِ عن إطارِها، عند التفكّرِ لفهمِ حديثٍ نبويٍ شريف.
الفقرة الثانية .. نموذجٌ عن فهمِ حديثٍ نبويٍ (حكمةٌ محمدية).
يقعُ في أسماعِنا اليومَ حديثٌ نبويٌ، يتترّسُ خلفَه مغرضونَ، ليستبيحوا الدماءَ والفسادَ. وهو الحديثُ الشريفُ: “ما أُرسلت إليكم إلا بالذبح”..
إنَّ ردّةَ فعلِ المسلمِ الأولى عند سماعِه هذا القولَ النبويَّ يترددُ على ألسنةِ المغرضينَ، هي: إما إنكارُ نسبةِ هذا القولِ إلى رسولِ الله ، لتعارُضِهِ معَ مقاصدِ البعثةِ المحمديةِ للعالمينَ وأوضحُها: الرحمةُ. وإما، السكوتُ والعزمُ على سؤالِ أهلِ العلم.
ونتدرّجُ معاً في محاولةٍ لفهمِ معنى هذا الحديثِ النبويِّ الشريفِ: ننطلقُ من المعرفةِ الصلبةِ، ونسألُ أنفسَنا: هل هذا الحديثُ النبويُ يحملُ حكماً نبوياً أو حكمةً محمديةً. فالظاهرُ منَ النصِّ – للوهلةِ الأولى – أنهُ حكمٌ نبويٌ، ويستخدمهُ البعضُ ليَعيثَ في الناسِ قتلاً وذبحاً. ولكن لنتمهلْ ونطبقْ نهجَنا في إنتاجِ فهمٍ سليمٍ للحديثِ الشريف:
فنرجعُ – أولاً – إلى السيرةِ النبويةِ الطاهرةِ لنتعرّفَ منها على أسبابِ الحديثِ النبويِ وسياقهِ وهل هو خطابٌ نبويٌ لأمةِ المسلمين أم للناسِ كافةً أم لقومٍ محددين. ونجدُ في دواوينِ الحديثِ الشريفِ؛ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا يَوْمًا رأيتُهُم وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتَيْهِ ، وَتَصَايَحَ النَّاسُ، فَظُنُّوا أَنَّهُ مَقْتُولٌ. وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنِ النَّبِيِّ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا بِالذَّبْحِ»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتَ جَهُولًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» .
إنَّ المعرفةَ الأولى التي نستنتجُها؛ أنَّهذا الحديثَ النبويَ لا يحملُ حكماً نبوياً بذبحِ المشركِ أو الكافرِ.وذلك لأنه جرى على لسانهِ الشريفِ وهو في مكةَ المكرمةِ، وقبلَ أن يأذنَ اللهُ تعالى للمسلمينَ بقتالِ من يقاتلهم. إذن، يتعيّنُ علينا أن نبحثَ عن حكمةٍ محمديةٍ محمولةٍ في هذا الحديثِ الشريف.
وتظهرُ الحكمةُ شيئاً فشيئاً عندما نرى أنَّ رسولَ اللهِ وجّه خطابَهُ إلى معشر قريشٍ، وخاصةً إلى أعيانِهم ورؤساءِ الأذى للمسلمينَ، يتهددُهُم ويتوعّدُهُم ويحذّرهُم نفسَهُ. وهذا الوعيدُ هو من جنسِ الإنذارِ المحمديِ لمعشرِ قريشٍ، بعد أن صَمّوا آذانَهُم عن سماعِ دعوتِه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة.. إنه يخبرهم عن نفسهِ – بحقٍ – أنه قادرٌ على دفعِ الأذى عن ذاتِه الشريفةِ، وأنهم ليسوا خارجينَ عن سطوةِ سلطانهِ، وأنهم لن يُفلتوا من القِصاص.
وهكذا نستشفُ الحكمةَ المحمديةَ الواصلةَ إلينا في هذا الحديثِ الشريفِ ومفادُها: إنَّ الإنذارَ قبلَ القِصاصِ هو حكمةٌ لأنه يُسقطُ حجّةَ الخصمِ بالجهل. وذلك حتى لا يحتجَّ المعاقَبُ بأنه لم يُنذَر.. وهذا تصديقاً لقوله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾. ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.
وتتأكدُ لدينا الحكمةُ المحمديةُ المحمولةُ في هذا الحديثِ الشريفِ، والمؤطَّرةُ بالرحمةِ المحمديةِ الشاملةِ لجنسِ البشرِ بأكملهِ، بأنَّ التهديدَ والترهيبَ قد يقلب– أحياناً – الموازينَ كلَّها، وقد يرتدعُ الجبّارُ منْ نفسهِ ويعيدُ حساباتِهِ، فلا يقعُ ما أُنذر به..
وتأكيداً على أنَّ هذا القولَ النبويَّ ليس حكماً نبوياً، أنَّ رسولَ اللهِ عندما دخلَ مكةَ منتصراً، وأمكنهُ اللهُ سبحانهُ من رقابِ عدوّهِ، وأفسحَ له تعالى لينفّذَ تهديدَهُ بالذبح .. نراه صلواتُ اللهِ عليه وقد جاءَهم بالتسامحِ والعفوِ: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.. “ومنْ دخلَ دارهُ فهو آمنٌ ومن دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمن”.. رحمةُ رسول الله هي إطارٌ عام، ومن المفروضِ أن تحدّدَ فهمنَا الإنسانيَّ لأيِّ حديثٍ نبويٍّ شريف.. والسيرةُ النبويةُ الطاهرةُ تقدّمُ لنا أدواتِ فهمٍ ثمينةً في هذا السياق.
الفقرةُ الثالثةُ: نموذجٌ ثانٍ.. حكمٌ نبوي
قال رسول الله: “أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال لا إله إلا الله فقد عصمَ مني نفسهُ ومالهُ إلا بحقهِ، وحسابُهُ على الله”.
إنَّ هذا الحديثَ النبويَ الشريفَ يحملُ حكماً نبوياً في أمرٍ من أمورِ الدين. وقد ينصرفُ ذهنُ معظمِ الناسِ إلى أنهُ يتضمّنُ أمراً بقتالِ الناسِ حتى يُسلموا، ويصبحَ الجميعُ أمةً واحدةً.. ونرى أنَّ هذا الفهمَ للحديثِ الشريفِ قاصرٌ، ويخالفُ آياتٍ محكماتٍ منَ القرآنِ الكريم، ويتعارضُ معَ مواقفَ ثابتةٍ من السيرةِ النبويةِ الطاهرة.
ومنْ أجلِ الوصولِ إلى معنىً يقاربُ الصوابَ، نحاولُ فهمَ الحديثِ النبويِ بالرجوعِ؛ إلى القرآن الكريمِ، وإلى السيرةِ النبويةِ، وإلى دواوينِ الحديثِ الشريف:
1- نبدأُ بالقرآنِ الكريمِ: يخبرُ الله سبحانَهُ عن نفسهِ بأنّه لو شاءَ لجعلَ الناسَ أمةً واحدةً. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾.
كما نعلمُ منَ القرآنِ الكريمِ بأنَّ الله سبحانهُ يؤانسُ حبيبَهُ ومصطفاهُ حتى يسرّيَ عنه تأسّفَهُ على أَنفاسٍ بشريةٍ تفلّتَتْ منْ هدايتهِ.. يقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾.ويقول تعالى مخاطباً مصطفاه: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾..
والسؤالُ: كيفَ نوفّقُ بينَ الآيةِ الصريحةِ بأنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنونَ حتى لو حَرَصَ النبيُّ على ذلك.. وبينَ ما فهمَهُ البعضُ منَ الحديثِ الشريفِ بأنهُ أمرٌ إلهيٌّ للنبيّ بوجوبِ قتالِ الناسِ حتى يدخلوا في الاسلام؟
إذن، لابدَّ منْ مراجعةِ هذا الفهمِ للحديثِ النبويِ وتصويبهِ على ضوءِ القرآنِ الكريم.
2 – نُثَنّي بالسيرةِ النبويةِ: نعلمُ من السيرةِ النبويةِ الموثّقةِ والمتواترةِ، أنَّ رسولَ اللهِ خيّرَ أهلَ الكتابِ بينَ: الإسلامِ، أو الجزيةِ، أو القتالِ.. وقد توسّعَ العلماءُ في تطبيقِ مفهومِ الجزيةِ على معظمِ البلادِ التي افتُتحت (لا توجد حربُ إبادة).
ولسنا هنا في معرضِ مناقشةِ مسألةِ الجزيةِ، ولكن نأتي بها دليلاً نستشهدُ بهِ على الفهمِ الخاطىءِ لهذا الحديثِ النبويِ الشريفِ. إذ كيف يعقلُ أن يقبلَ رسولُ الله الجزيةَ، وهو مأمورٌ بقتالِ الناسِ حتى ينطقوا بشهادةِ الإسلام.. وهو صلواتُ اِلله عليهِ لا يعصي لله أمراً؟..
إذن، لابد من مراجعةِ هذا الفهمِ للحديثِ النبويِ وتصويبهِ على ضوءِ السيرةِ النبويةِ الطاهرة.
3 – نُثلّثُ بالنظرِ في كتبِ الحديثِ النبويِ الشريفِ.. نتدرّجُ مع مدوّناتِ الصحاحِ للنظرِ في أحاديثَ نبويةٍ ذات صلةٍ بالحديثِ الشريفِ موضوعِ التفكّر. ويستوقفُنا حديثٌ شريفٌ وردتْ روايتُه في صحيحِ مسلمٍ، عن أسامةَ بن زيدٍ قال: “بعثَنا رسولُ الله في سرية، فصبّحْنا الحُرُقاتِ (موضعٌ في بلادِ جُهَيْنة) من جهينةَ (قبيلة)، فأدركْتُ رجلاً فقال: لا إله إلا الله. فطعنتهُ. فوقعَ في نفسي من ذلكَ. فذكرتُه للنبيِ فقال: أقالَ لا إله إلا الله وقتلته؟ قلتُ: إنما قالها يا رسولَ اللهِ خوفاً من السلاح. قال: أفلا شققتَ عن قلبهِ حتى تعلمَ أقالها أم لا. فما زالَ يَكررُها عليّ حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذٍ”.
والآن، بعدَ عرضِ هذا الفهمِ المغرضِ المتداوَلِ للحديثِ النبويِ الشريفِ: على آياتِ القرآنِ الكريمِ، وعلى السيرةِ النبويةِ الطاهرةِ، وعلى الحديثِ النبويِ الشريفِ.. خَلصْنا إلى فهمٍ جديدٍ، لم نعثُرْ عليهِ في كتابٍ، ولم يصلْ إلى أسماعِنا من عالِمٍ، ولكنه نتجَ عن عدمِ إفرادِنا للحديثِ الشريفِ عن منظومةِ النصوصِ القدسية. ويتلخصُ هذا الفهمُ الجديدُ؛ بالقولِ لأصحابِ الفهمِ الخاطىء: نعم، هذا الحديثُ النبويُّ الشريفُ يحملُ حكماً نبوياً في أمرٍ من أمورِ الدين. ولكنهُ ليس حكماً بقتالِ الناسِ وقتلهمْ إن لمْ يقولوا لا إله إلا الله. ولكنهُ حكمٌ نبويٌّ بوجوبِ التوقّفِ فوراً عن قَتلِ من يتلفظُ بالتوحيد.
إذن، هو حكمٌ نبويٌ في وَقْفِ القتالِ وتوقيتهِ، وليس حكماً في بدءِالقتالِ واستمراريتِه.
الفقرةُ الرابعةُ: طرحُ نهجٍ في فهمِ الحديثِ النبويّ
نخلصُ من كلِّ ما سبقَ إلى أنهُ إنْ تعارضَ فهمُنا للحديثِ النبويِ الشريفِ معَ مبدأٍ عامٍّ منْ مبادىءِ الرسالةِ المحمديةِ (مقاصدِ البعثةِ المحمديةِ؛ وأولُها: الرحمةُ، ونَشرُ السلامِ) يتعينُ علينا أن نعيدَ النظرَ في فهمِنا للحديثِ الشريفِ؛ وهذه الإعادةُ للنظرِ تتبعُ نهجاً أصبحَ واضحاً بعدَ إيرادِنا للنموذَجيْن السابقيْن، ويتلخصُ بالمراحلِ الآتيةِ:
1- نرجعُ أولاً إلى القرآن الكريم.. حيثُ السياقُ العامُّ للآياتِ الكريمةِ هو سياقٌ دعويٌّ: حوارٌ، إقناعٌ، مخاطبةُ الفطرةِ الإنسانيةِ، الإعلاءُ من قيمةِ العقلِ والكلمة..
2- ثمَّ نرجعُ ثانياً إلى الحديثِ النبويِ الشريفِ.. وهنا نجتهدُ في فهمِ الأحاديثِ النبويةِ التي يجمعُها موضوعٌ واحدٌ، مع قراءتِها بتأنٍّ وتمعُّنٍ لتكوينِ فكرةٍ متكاملةٍ عنِ الموضوعِ (أي تفسيرُ الحديثِ بالحديث).
3- ثم ثالثاً نرجعُ إلى السيرةِ النبويةِ الطاهرةِ.. ومن سيرتهِ صلواتُ اللهِ عليهِ نفهمُ سياقَ الحديثِ وظروفَهُ وأشخاصَ المخاطبينَ، وغيرَ ذلك من معلوماتٍ تصوّبُ وجهةَ الإعقالِ عندَ كلّ مفترقٍ في عمليةِ الفهم.
4- ورابعاً.. يُستحبُّ أن نسترشدَ بما قدّمهُ أئمةُ السنةِ، الراسخينَ في العلمِ، منْ فهمٍ للحديثِ النبويِّ موضوعِ التفكر. وذلكَ أنَّ سلفَنا العلميَّ الصالحَ كان شمولياً في بحثهِ وتفكّرهِ، عندَ إرادةِ استنباطِ مطلقِ معنىً من نصٍّ قدسيّ.
وأخيراً..
إن الفهمَ السليمَ والوَسَطِيَ للإسلامِ الحنيفِ (متمثّلاً بنصوصِه القدسيةِ: القرآنِ الكريم والحديثِ النبويِ الشريف) يتعرّضُ اليومَ إلى حربٍ فكريةٍ من داخلِ الشارعٍ الإسلامي.. ونرى فئاتٍ من داخلِ صفوفِ المسلمينَ تنشرُ الفهمَ الخاطئَ والضيقَ للحديثِ النبويِ الشريف (وأيضاً تمارسُ علاقاتِها من خلالِ فهمِها الخاطىء).
وفي جولةِ أفقٍ لرصدِ انعكاساتِ هذا الفهمِ الخاطئ على الشبابِ المسلمِ الذي لا يمتلكُ معرفةً كافيةً لمواجهةِ هذه الافتراءات.. نجدُ أن الكثير من الشبابِ: إما أنه يرفضُ نِسْبَةَ الحديثِ المتداولِ ورَفْعَه إلى رسولِ الله ، ويستعظمُ أن يكونَ الرحمةُ المهداةُ إلى العالمين قد قاله. وإما أنه يجدُ في نفسِه حَرَجاً من أن الإسلامَ هو دينٌ يدعو إلى شيءٍ من العنف.
وفي هذا السياقِ الختامي نقول: إنَ الإنسانَ المؤمنَ لا يملكُ الحقَ بأن ينفيَ نِسْبَةَ حديثٍ نبويٍ إلى رسول الله ، استناداً إلى عقلهِ الشخصي وذوقِ إدراكِهِ الذاتي. وذلك لأن الحديثَ النبويَ هو نصٌ قدسي، وتوثيقَه هو علمٌ من علومِ المسلمين لا يمكنُ تخطيّه ولا تجاوزُه.
ولكن نحثُ الإنسانَ على أن يتبنّى نهجاً في فهمِ الحديثِ الشريفِ (وقد بيّناهُ في كلمتنا)، وأن يضعَ حركةَ إعقالِهِ – دائماً – في إطارِ الرحمةِ والسِلْم.. فإنه بذلكَ سوفَ يحمي نفسَه (وأهلَه ومحيطَه) من أن يقعَ في فخٍ هذه الهجمةِ الفكريةِ الشرسةِ على سماحةِ الإسلامِ وانفتاحِ مجتمعِه على التعدديةِ الفكريةِ والتنوعِ الإنساني.