تمكين الشاب في الأرض
بسم الله الرحمن الرحيم
تمكين الشاب في الأرض
إنّ المتتبّع لتطورات أحوال الناس في إقليم العرب من الأرض، يرصد بيُسْر أن الخطاب الإصلاحي- النقدي الذي كان سائداً لقرون تراجع أمام صعود خطاب التنمية، وأنه – فقط – طوال السنوات العشر الماضية كانت جهود المؤسسات الرسمية وقادة المجتمع تتكاتف وتتكامل – بشكل حثيث ومتواصل – للنهوض بالإنسان عبر تمكينه من أدواره الوجودية وعبر رفع قدراته الذاتية وتوسعة دائرة مهاراته العلمية والعملية. وذلك بغية تحقيق العيش الكريم للمواطن والحد الأدنى من الرفاهة، وأيضاً بغية إحقاق التوازن العادل – أو القريب من العدالة – بين الأوضاع المعيشية للأغنياء والفقراء، إرساءً للأمن الإقليمي والتفاهم العالمي.
وفي هذا المسرى التنموي، ومنذ خمسين عاماً إلا ثلاث [عام 1973م]، صعد الدندراوي الثالث سمو الأمير الفضل بن العباس أحسن الله إليه برضاه إلى منصّة المؤتمر في دندرة المحروسة، وطرح سؤال الهوية: من نحن؟.. ومنذ هذه اللحظة بدأ في صفوف الأسرة الدندراوية مسار التمكين الإنساني في مجالين معاً هما: مجال التمكين الذاتي، ومجال التمكين المعرفي.
وهذان التمكينان يشكّلان “الأساس الصلب” الذي يسبق ويحمل أي تمكين إنساني لاحق ويجعله مستداماً. ومن هنا، فإن هذين التمكينين هما “الجذع المشترك” في أي إصلاح إنساني وفي أي تنمية بشرية تتوجه إلى جيل من أجيال الإنسان، يعيش في تشكُّل سكاني ما من تشكُّلات الاجتماع البشري.
وهكذا منذ نصف قرن تقريباً، والأسرة الدندراوية منكبّة على تمكين أجيال الإنسان الأربعة بهذا الأساس الصلب، ليغدو كل شخص منها قيمةً إنسانية وقامةً اجتماعية.
وليس آخر انشغالاتنا ما قمنا به من وَضْع خطة نظرية ترتّب عليها أنشطة عملية عديدة ومستدامة لتمكين المرأة من أدوارها الإنسانية، وكذا طَرْح برنامج من مسارات ثمانية لتمكين الطفل الدندراوي ذاتياً وإعداده للحياة، ثم المباشرة بتحقيق هذا البرنامج عبر تشبيك جهود الأهل مع جهود مدارس دندرة للتأصيل المعرفي.
واليوم نواصل ما دأبْنَا عليه منذ نصف قرن من الزمان، ونتوجه بخطابنا الإنساني إلى جيل الشباب؛ لنقول: إن عملية التمكين لا تنحصر في مجال واحد كما أنها ليست نشاطاً يتم مرّة واحدة ويصبح منجزاً ومقفلاً، بل هي فعل شمولي ومنفتحٌ على التعديل المستمر والتطوير الدائم تبعاً لحاجات الزمان والمكان وأولويات الإنسان. وينتج عن هذا الكلام، أن عملية التمكين – من منظور دندراوي – تتآلف من جزءين متكاملين: جزء أولٌ ثابتٌ ولازم ومستدامٌ، وهو جذع مشترك في كل نشاط تمكيني يخص الإنسان في أي زمان ومكان وعلى تعدد أجياله واختلاف نظم مجتمعاته.. وجزءٌ ثان متحرّك متطوّر، قابلٌ للتعديل ولاستبدال نشاطٍ بنشاط آخر تبعاً للاستكفاء المرحلي أو لطروء حاجات وأولويات وتحديات حياتية جديدة.
بناءً على كل ما تقدم، نجلي للجميع برنامجنا الدندراوي لتمكين جيل الشباب. وهو برنامج انبثقت منه أنشطة وفعاليات تمكينية في مجالات أربعة؛ المجالان الأولان منها ثابتان والمجالان الثانيان منها متحركان؛ وهذه المجالات الأربعة هي: التمكين الذاتي، والتمكين المعرفي، والتمكين المهني والمهاراتي، والتمكين الثقافي. ونكتفي فيما يأتي بتعريف مختصر لكل مجال تمكيني مع بيان الغاية المنشودة منه.
أولاً – التمكين الذاتي:
منذ نصف قرن تقريباً والعمل حثيث في صفوف الأسرة الدندراوية على تمكين الذات الإنسانية بإراءتها سبيل اكتساب التكوين المحمدي. وغايات هذا التمكين عديدة، نذكر منها غايتين: الأولى، إن التكوين المحمدي المكتسب يماسك الذات الإنسانية ويجعلها صلبة راسية كأنها وتدٌ مغروسٌ في عمق البحر لا تزحزحه عوالي اللُجَج، وليست كغصن شجرة طافياً على سطح الماء تتقاذفه الأمواج وتتكالب عليه المراسي الظالمة المظلمة. والغاية الثانية، إن صاحب التكوين المحمدي تتحقق فيه جميع الفاعليات والتفاعلات التي تجعل منه إنسان أمة، ذاك الشخص الذي يشكل لبنةً في الاجتماع البشري الذي هو جزء منه، وخيطاً لاحِماً في مجتمعه لا مقصّاً قاطعاً بين إخوانه أو بين أهل مكانه.
ثانياً – التمكين المعرفي:
إن التمكين المعرفي لا يتحقق بجمع الكثير من المعلومات عن كافة المواضيع الحيوية، بل جوهره أن يمتلك الشخص رؤى فكرية واضحة عن الدين والمعتقدات الإيمانية وعن العالم المحيط وعن بدء الخلق ونشأة الأمة وتاريخ الجماعة البشرية، وغير ذلك من الرؤى التي يحتاجها إنسان الكون في هذا العصر. وغاية هذا التمكين أن لا يترك الإنسان للتدفق المعلوماتي مهمّة تشكيل عقله الشخصي، لأنه بذلك يعرّض نفسه للتجاذبات الفكرية والتذبذب المعرفي، وفي أحسن الأحوال قد يصبح واحداً من اثنين: إما مسلماً يستقي هداه في دينه ودنياه من تقواه، وإما مسلماً يجعل هداه في دينه ودنياه وفق هواه.
ثالثاً – التمكين المهني والمهاراتي:
إن التمكين المهني لا يكتمل بمجرد أن ينهي المرء دراساته في كليات التعليم العام أو في معاهد التعليم الخاص، ثم يدخل في سلك وظيفة أو يمارس مهنة. ولكن الحياة العملية اليوم تتطلب من الشخص أن يكون متقناً ومبدعاً ومتميزاً بحيث لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله. وهذا يعني، أن يظل دائماً مواكباً للمستجدات العلمية في ميدانه، ومتتبعاً للمؤتمرات والندوات والدورات وورشات العمل المتعلّقة بمجاله العملي، وطالباً لكل ما يُكسبه مهارات جديدة ويرفع قدراته ويرسي كفاءاته.. والغاية من هذا التمكين هي أن يستيقن المرء من استقرار أمان رزقه، فتندفع حركته في الوجود ويسهم في تقدّم مجتمعه.
رابعاً – التمكين الثقافي:
إن القراءة في موضوعات متنوعة كالتاريخ والسياسة والاجتماع والفنون والآداب والعادات والأعراف، تمدّ الشاب بالأبجديات الثقافية التي تمكّنه من المشاركة في مناقشة ذكية في محفل من الناس. والغاية من هذا التمكين الثقافي لا تكمن في إعداد متحدّث لبق يتنقّل برشاقة من موضوع إلى موضوع، ولكن في إعداد إنسانٍ قادرٍ على إظهار هويته الإنسانية وتكوينه المحمدي وكل ما هو خاص، في سياقٍ ثقافي عام.
نصل الآن إلى الختام فنقول لجيل الشباب:
إن هذا التمكين الرباعي الحيثيات، يقدم للناس إنساناً حنيفاً في دينه، مستقيماً في خلقه، صاحب هوية إنسانية وفكرية، حريصاً على تماسك مجتمعه ولحمة جموع أمته والجماعة البشرية، أليفاً مألوفاً من أهل مكانه، ثابتاً في حمل القضايا التي يؤمن بها ويلتزم.
والسؤال الذي قد يخالج الأذهان: لماذا تنشغل الأسرة الدندراوية بتمكين الإنسان، وهي الجمع الذي تأسس ليحمل راية الزعامة المحمدية ويحرس الأعتاب النبوية؟
فنقول؛ إن الأمثلة من التاريخ ومن الحاضر عديدة، عن أشخاص يرفعون راية قضية نبيلة دون منازع، ولكنهم أساؤوا إليها ونفّروا الناس منها بنقاش متعصّب متطرّف، أو بتصرّف عشوائي غير حكيم.. ولذا، فإن اعداد الإنسان اللائق بحمل راية قضية سامية هو جزء أساس من القضية.. ومن هنا، فإن الأسرة الدندراوية في سعيها لتمكين الشاب ذاتياً ومعرفياً ومهنياً وثقافياً فإنما تعدّ الفارس المؤتمن على حمل راية الزعامة المحمدية بما يليق بها من حضارة الإسلام ورقي الإنسان، وبكل ما جاء به صاحبها صلوات الله عليه من رحمة ومحبة وأمن وسلام للناس جميعاً.
لا يوجد تعليقات