المعيّة الإلهية والمعيّة المحمدية
بسم الله الرحمن الرحيم
المعيّة الإلهية والمعيّة المحمدية
يدل لفظ المعيّة في المعجم العربي على الرفقة والصحبة، وتوسُّعاً على كافة أشكال الاجتماع البشري والعيش معاً؛ ابتداءً من دائرة الائتلاف الثنائي وصولاً إلى دائرة المواطنة التي تضمّ شعب بلدٍ أو أناس العالم جميعاً.
وهذه المعيّات البشرية، التي تنشأ إما بحكم الخيارات الشخصية كما في الصداقات والعلاقات والأسفار والتنقلات، وإما بحكم الولادة والنشأة والظروف العملية والمعيشية، فمنها الصالح الآمن ومنها الطالح المحفوف بالخطر، منها ما يدعم الإنسان وينميّه ويعينه على كل خير ومنها ما يُقْعِده ويوهِنه ويزيّن له الباطل والعدوان.. وهنا لا يملك المؤمن إلا أن يلتزم بالأمر الإلهي ويبحث في كل بيئة بشرية هو جزء منها عن الصادقين الصالحين المصلحين ليكون معهم، يقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ( [التوبة/119].
ومن عظيم حظّ الإنسان في الوجود، أن الله سبحانه لم يَذَرْه فَرْداً في الكون، أو في جماعة صالحة يستصفيها، بل أَبَانَ له في قرآنه الكريم أنّه بإمكانه الفوز بالمعية الإلهية والمعية المحمدية. وغني عن القول؛ إنّ مَنْ تكفَّل الله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء بحفظه وعونه فهو المنصور.
ونجعل كلمتنا على شطرين؛ نخصّص الشطر الأول للمعيّة الإلهية والشطر الثاني للمعيّة المحمدية.
المعيّة الإلهية العامة والخاصة
يضم هذا الشطر الأول من كلمتنا أربع أفكار تتساند لتبين للإنسان أن بيده أن يفوز بالعون الرباني وبالنصرة الإلهيّة في كل عمل يقوم به لجلب مصلحة أو لدفع مضرة؛ سواء كان ذلك في دينه أو في دنياه، وسواء كان ذلك لشخصه خاصة أو لجماعته الصغرى أو لجمع أمته أو للجماعة البشرية قاطبة.
الفكرة الأولى: ثبوت معية إلهية عامة للناس كافة
يخبرنا القرآن الكريم بأن الله سبحانه هو في معيّة خلقه جميعاً. إنه تعالى مع كل إنسان وأينما كان هذا الإنسان موجوداً في الكون. وهذه المعيّة الإلهية لم ينلها المخلوق بعملٍ قدّمه أو بعبادةٍ أدّاها، بل هي عامة في المخلوقات والكل فيها سواسية لا فضل لواحدٍ بها على آخر ولا مراتب فيها. يقول تعالى: )وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ( [الحديد/4].
ويوجد إجماع بين العلماء والمفسرين على أن هذه المعيّة الإلهية منزّهةٌ عن المكان والجهة والحيّز، وهي معيّة مجازية معناها: القدرة والعلم. فالله سبحانه مع عباده بنفاذ قدرته في كل ما يجري في مُلْكِه، فلا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه.. وهو تعالى مع عباده بإحاطة علمه بذواتهم وأعمالهم وأحوالهم وخلجات صدورهم، فهو البصير الذي لا يخفى عليه شيء.
الفكرة الثانية: ثبوت معية إلهية خاصة بالمرسلين.
لا نجد في كتاب الله المنزل، آيةً واحدةً تجرّأ فيها إنسانٌ مؤمن وأعلن بحقّ أن الله سبحانه معه على الخصوص، حافِظُهُ من كل ضرّ ومانِعُهُ من كل سوء وناصرهُ ضدّ كل عدو.. اللهم، إلا أن يكون هذا الشخص نبياً مرسلاً من الله سبحانه إلى أمةٍ من الناس.
إنّ الشواهد القرآنية كثيرة على كون الأنبياء المرسلين من الله جل وعلا ليسوا فرادى في الكون عند ممارسة مهام دعوتهم، ولكن الله سبحانه معهم على الخصوص؛ بالسمع والرؤية والهداية والنصرة. ومن هذه الشواهد قوله تعالى مخاطباً موسى u حين أرسله إلى فرعون: )اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى( [طه/42 – 46].
وقوله تعالى ذاكراً قالة موسى u لأصحابه حين خرج ببني إسرائيل من مصر: )فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ( [الشعراء/ 61 – 62].
وتخشع بصائرنا وتسجد قلوبنا ونحن نتلو الآية الكريمة التي نعلم منها أن الله تعالى مع رسولنا المصطفى وزعيمنا المجتبى صلوات الله عليه معيةً مستدامةً لا ظرفية وعند الحاجة، وأنه تعالى أيضاً مع الذين معه صلوات الله عليه.. يقول تعالى: )إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا( [التوبة/40].. كليم الله u يقول: «إن معي ربي»، وحبيب الله عليه صلوات الله يقول: «إن الله معنا».
الفكرة الثالثة: معنى المعية الإلهية الخاصة بالمرسلين
نستنبط من التفكُّر في تاريخ الرسل والأمم المحفوظ في آيات القرآن الكريم، أن المعية الإلهية الخاصة بالمرسلين – عليهم السلام – تدل على معنيين هما: الحفظ والنُّصرة (إضافة إلى المعية الإلهية العامة التي تدل على القدرة والعلم).
أما المعنى الأول وهو الحفظ، فنستجليه من الكتاب العزيز الذي يخبر بأن الله تعالى لا يضيّع رسله والذين معهم حتى عند مجيء الأمر الإلهي بالإهلاك العام عقاباً. وهذا ما حدث في الأقوام البائدة عند الطوفان وعند الريح الصرصر العاتية وعند الصيحة الصاعقة وعندما أمطرت السماء حجارة.. ونكتفي بذكر آية واحدة للدلالة.. يقول تعالى: )وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ( [هود/58].
والمعنى الثاني هو النصر، ويظهر في صورةٍ جليةٍ في معيّة الله تعالى لحبيبه ومصطفاه عليه صلوات الله بالتأييد والنصر، إبتداءً من مولده الشريف وظهور ختم النبوة بين كتفيه مكتوب في داخله بقلم القدرة الإلهية كلمات منها «توجّه حيث شئتَ فإنك منصور» مما جعل أحداث حياته البشرية كلها متواليةً من النصر الإلهي، وصولاً إلى تمام النصر بأن ثبّت الله تعالى به رسولاً صلوات الله عليه كلمة التوحيد في الأرض وقيام الإسلام في الوجدان، وجمع الله تعالى به زعيماً صلوات الله عليه أمة المسلمين المتآلفة من أعراق أهل الأرض والمتلاحمة بالتوادّ والتراحم والتعاطف.
الفكرة الرابعة: سبل تحصيل المعية الإلهية الخاصة
إن إطمأنّ الإنسان إلى أن الله تعالى معه على الخصوص، بالحفظ والنُّصرة في كل مسعى في مناحي حياته، تنزاح عن كاهله أثقال الخوف والتردُّد ويستشعر بالأمن وبالقوة وبأنه يأوي إلى ركنٍ شديد. وهذا يجعله إيجابياً ناهضاً واثقاً بنفسه، مقداماً لإقتحام التحديات مستيقناً من تحقيق معالي الأمور، بإذن الله تعالى.
والسؤال: كيف يفوز الإنسان اليوم بجهده الشخصي بالمعيّة الإلهية الخاصة المستدامة لا الظرفية؟
نقول: يفتح القرآن الكريم أمام الإنسان سبيلين مشبوكين بأعمال قلبية وبدنية للفوز بالمعيّة الإلهية الخاصة. وهذان السبيلان هما بإختصار:
السبيل الأول هو سبيل التميُّز بالقُرُبات.. يخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن معيته سبحانه بالتأييد والنصر لأربع من أهل الرتب هم: المتقون، والمؤمنون، والصابرون، والمحسنون.. يقول تعالى: )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [البقرة/194]. ويقول تعالى: )وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ( [الأنفال/19]، )إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( [البقرة/153]، )وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ( [العنكبوت/69].
وهذا السبيل الأول هو سبيل منصوصٌ عليه في القرآن الكريم، ولا نشك طرفة عين بصدق الوعد الإلهي بأنه تعالى مع المؤمنين والمتقين والصابرين والمحسنين بالحفظ والنُّصرة. ولكن كيف لنا أن نطمئن إلى أن عملنا الذي قدّمناه لتحصيل رتبة من هذه الرتب الأربع مقبول من الله سبحانه وأنه لم يُحبط منه شيءٌ بذنب وقع في دائرة وعينا أو في غفلة منا؟!
أما السبيل الثاني للفوز بالمعية الإلهية الخاصة فهو أن يسعى الإنسان ليكون من الذين مع سيد البشر محمدٍ رسول الله عليه صلوات الله.. وذلك، لأنه على بيّنةٍ قرآنية بأن الله سبحانه يقيناً مع حبيبه ومصطفاه صلوات الله عليه ومع الذين معه؛ إنه تعالى معهم بالحفظ والعناية والعون والنُّصرة. فالمعادلة بسيطة: إن كان الشخص مع محمد رسول الله عليه صلوات الله، يكون الله تعالى معه بالحفظ والنصرة في كل حال وحين.
وهذا يوصلنا إلى الشطر الثاني من كلمتنا التي نبين فيها أن المعية المحمدية عند انتقال الحبيب الأعظم عليه صلوات الله من الوجود البشري إلى الوجود النوري لم ينطوي وجودها الدنيوي، ولم تنقطع مفاعيلها، ولم يتوقف دورها الآن واليوم في حياة إنسان الأمة.
الشطر الثاني: المعيّة المحمدية
يضم هذا الشطر الثاني من كلمتنا أربع أفكار أيضاً.. وهذه الأفكار تتداخل وتتكامل لترسم صورةً واضحةً للمعيّة المحمدية في الآن الحاضر. نبدأ بإثبات وجودٍ للمعيّة المحمدية وأنها أَمَنَةٌ لأهلها ومِنْعَة، ونثنّي ببيان معنى أن يكون الإنسان مع سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله، ونثلثّ برصد مفاعيل المعيّة المحمدية في حياة الشخص، ونربّع بالدلالة على السبل المفتوحة أمام الإنسان ليفوز الآن بخيرات المعية المحمدية ورحماتها.
الفكرة الأولى: ثبوت المعيّة المحمدية وضمانتها للمعيّة الإلهية
عديدة هي الآيات القرآنية الكريمة التي تدل على كون الذين مع محمد رسول الله عليه صلوات الله محفوظين ومنصورين من الله تعالى بحفظه وبنصره صلوات الله عليه. ونكتفي بذكر شاهدين:
الشاهد الأول: وهو آية كريمة يذكر الله تعالى فيها قول رسوله الكريم r لصاحبه في الغار، ويستبين من هذا القول النبوي المحفوظ في آية قرآنية وجود معية محمدية ضامنة للمعية الإلهية الخاصة بالمرسلين. والآية القرآنية هي: )لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا( [التوبة/40]؛ أي حافظنا وناصرنا.
إن الصادق الأمين عليه صلوات الله لا يقول إلا حقّاً، فقد يُمازح صلوات الله عليه واحداً من صحابته ولكن لا يقول إلا حقاً، وقد يسكّن صلوات الله عليه فؤادَ صحابيْ من صحابته بعبارةٍ تبثّ الطمأنينة في عروقه وتبشّره بالنصر ولكن لا يقول إلا حقاً.. وهذه العبارة التي قالها صلوات الله عليه لصاحبه في الغار هي عين الصدق وحقيقته. ومعنى ذلك، أنها قول نبوي مختوم بآية قرآنية، وحُقَّ أن يُستنبط منه حقائق دينية وحِكَمٌ حياتية.
أول هذه الحقائق وأهمها، وهي ما يعنينا هنا؛ أن لفظ “معنا” يثبت وجود معيةٍ لسيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله، ويثبت كونها مانعة لمن هم أهلها من كل أذى وسوء وناصرةٍ إياهم ضدّ كل معتدّ. وذلك، لأنها معية بشرية ضامنة للفوز بالمعية الإلهية الخاصة بالمصطفين من الأنبياء عليهم السلام.
الشاهد الثاني: وهو آيتان كريمتان متتاليتان، يستبين من تدبُّرهما أن الذين مع محمد رسول الله عليه صلوات الله يشكلون كياناً بشرياً مستقلاً وواحداً، محدّد المواصفات والصفات. يقول الله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( [الفتح/ 28-29].
إن التدبُّر الدندراوي لهاتين الآيتين الكريمتين المتتاليتين من سورة الفتح ينصح بالوقوف وجوباً عند )محمد رسول الله(. وذلك، لأن الخبر الإلهي المتعلّق بسيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله قد اكتمل. وبعده سوف يبدأ خبرٌ جديدٌ يحكي عن الذين مع محمد رسول الله عليه صلوات الله، ويذكر مواصفاتهم في التوراة وصفاتهم في الإنجيل.
أما مواصفاتهم في التوراة فهي أربع: )أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ(، )تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا(، )يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا(، )سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ(. وصفاتهم في الإنجيل هي أربع أيضاً: )كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ(، )فَآزَرَهُ(، )فَاسْتَغْلَظَ(، )فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ(.
الفكرة الثانية: معنى المعيّة المحمدية.
نطرح على أنفسنا أسئلة، منها: ما معنى أن يكون الإنسان مع محمد رسول الله عليه صلوات الله؟ هل هي معية بالأبدان ومتحيّزة في مكان ملموس؟ أم هي معية وجدانية في أينية نورانية تجعل المتحقّق بها يتحرّك في الكون حاملاً راية سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله بكل ما تمثّله من قضايا وأفعال وأقوال وأحوال؟ باختصار: هل هي معية مجالس وتقارُب أمكنة، أم معية قضايا ومهام عابرة للأزمنة؟
وللإجابة على هذه الأسئلة نحتاج إلى معرفتين هما: أن نعرف أولاً معنى المعية المحمدية، ثم أن نعرف ثانياً كيفية ممارستها اليوم. لذا، نمدّ بصائرنا إلى الصحابة الكرام لنستجلي ماهية فهمهم لمعنى أن يكونوا معه صلوات الله عليه، ثم نرجع إلى ذواتنا اليوم لاستبيان كيفيةٍ تمكّننا من عَيْش هذا المعنى في الوقت الحاضر.
1- معنى أن نكون معه صلوات الله عليه: عديدة هي مواقف الصحابة وأخبارهم التي تحفظ للأجيال معنى المعية المحمدية. ولكن نكتفي بذكر واقعةٍ واحدةٍ فقط لأنها من الوضوح بحيث أنها تفي بالمطلوب وتغني عن التطويل؛ وهي تخبر عن قيام المقداد بن عمرو t ليقول قولته الشهيرة لسيدنا رسول الله r حين استشار الناس قبيل معركة بدر الكبرى. قال: «يا رسول الله، إمضِ لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، )فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ( [المائدة/24]، ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فواللذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه».
ونفهم من قولة هذا الصحابي الجليل عدة أمور منها: (1″) أن المعية المحمدية ليست صلة تتحقق في خلوة ثنائية، بل هي معية جامعة للأمة لأنها معية زعيم هذه الأمة صلوات الله عليه. وندرك ذلك من قولة المقداد: «إنا معكما مقاتلون» التي جاءت بصيغة الجمع. و (2″) أن المعية المحمدية تعني أن يكون الواحد من أمته معه صلوات الله عليه في كل أمر عزم عليه أو أمضاه، وفي كل شأن عام نهض به. و(3″) أن المعية المحمدية ليست بالبدن أو بالقرب المكاني.. لأنه كم من شخص قعد في مجلس النبي صلوات الله عليه، ولربما قرّبه صلوات الله عليه ليُقعده إلى جانبه الشريف تأليفاً لقلبه وتأنيساً، ومع ذلك ظل قلبه متولياً عن النبي r وظل جهده وجهاده واجتهاده مع غيره ولربما مع عدوه.
إذن، إن المعية المحمدية لجيل الصحابة هي معيةٌ وجدانية ووجودية معاً.. معية متحققةٌ في قربٍ مكاني ملموس، ومصحوبةٌ بمشاهدة بصر.
2- كيف نعيش اليوم معيتنا له صلوات الله عليه؟ وأين تقع هذه المعية المانعة من خارطة المكان النوراني؟: إن المعية المحمدية معناها واحد عبر الزمان، وهو اليوم على ما كان عليه مع جيل الصحابة، ويتلخص بعبارة واحدة وهي: أن يعيش المؤمن بوجدانه وبوجوده تحت ظل راية الزعامة المحمدية الجامعة، فلا يتحرّك إلا تحت رايته صلوات الله عليه، ولا يخرج من تحت الراية تحت ضغط أي تحدٍ من التحديات. وبكلام مباشر وبسيط؛ فإنّ أيّ شخص صار طرفاً في خصومة مع أي إنسان من جمع الأمة، مهما كان فكره ومهما كانت الأسباب، ثم تطورت هذه الخصومة أو هذا النزاع إلى تدابر أو تقاطع أو توسيع هوّة الخلاف بأشكال الاصطفاف، يخرج من المعيّة المحمدية المانعة لأنه خرج من تحت راية الزعامة المحمدية الجامعة. وذلك، لأنّ معيتنا له صلوات الله عليه محلّها وموقعها العَقَدي – اليوم كما دائماً – تحت راية زعامته الجامعة.
إذن، إن المعية المحمدية لأجيال الإنسان على تتابع السنين منذ مطلع حياته النورانية عند موت بشرية صلوات الله عليه هي معية وجدانية ووجودية، وبشهود بصيرة.
ويدلنا الفكر الدندراوي إلى أن الله جل جلاله جعل المعية المحمدية على رسم طريق نوراني، حدّد سبحانه خط بدايته بيوم ظهور الرسالة المحمدية، وحدّد جل جلاله خط نهايته بيوم قبول الشفاعة المحمدية، ليسير الجميع على طريق المعية المحمدية المانعة تحت ظل راية الزعامة المحمدية الجامعة.
الفكرة الثالثة: دور المعية المحمدية في حياة الواحد من أهلها
عندما يرتبط الإنسان بشخص سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله ويصبح محمدي التكوين، ثم يتابع مسيرته ليصل إلى منزلة القرب من سيد البشر صلوات الله عليه ويصبح من أهل معيته e، تنعكس أنوار القرب المحمدي على بصره وبصيرته. هنا، وحالما يضيء هذا القرب المحمدي بصر الواحد من أهل المعية المحمدية وبصيرته، فإنه يمنعه من فعل أي سيئة ومن قول أي سوء. وما ظنُّكم بإنسان لا يأتي بسيئةٍ تُذهب حسناته ولا يسيء لواحدٍ من محيطه البشري بكلمةٍ مؤذيةٍ تغيّب محاسنه عن أعينهم. إن الناعم بالمعية المحمدية المانعة مطمئن على ذاته ومآله في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وواثق من رضى الله ورسوله عنه، ويتحرّك محفوفاً بالسلام بين الناس لأنه يحظى برضاهم واستحسانهم.
الفكرة الرابعة: سبيل الفوز بالمعية المحمدية ومقياس التحقُّق بها.
من المنطقي أنه عندما يستقين الإنسان من أن معيته لسيد البشر صلوات الله عليه هي رتبة في الدين، وتضمن له معية الله تعالى بالحفظ والنصر، وتحصّن حسناته ومحاسنه؛ فإنه يصبح مستعداً للقيام بجليل الأعمال للفوز بها. وفي الوقت نفسه، يظل حريصاً على القيام بالتزاماتها وواجباتها لدوام ثباته واستقراره في زمرة أهلها. وحتى نتمكن من توفية هذه الفكرة الرابعة حقّها المعرفي نقسم الكلام إلى فقرتين: في الفقرة الأولى نبين سبيل الفوز بالمعية المحمدية، وفي الفقرة الثانية ندلّ على معيارٍ يمكننا من التفريق بين من هم حقاً من أهل معية النبي الأمي صلوات الله عليه، وبين من هم أهل أقوال وظنون لا أهل أعمال وفنون.
الفقرة الأولى.. سبيل الفوز بالمعية المحمدية: تدلّنا الوثيقة البيضاء في كتابها الأول على السبيل الموثوق للفوز بالمعية المحمدية، وهو أن يسعى المؤمن بكليّة مكوّناته الذاتية؛ أي بكوامن عقله وبنوازع نفسه وبجوامع روحه وبخلايا بدنه، لأن يجعل من سيّد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله الأقرب إليه من والدَيْه.
هذا السبيل يطرح تساؤلين لدى الشخص المعنيّ بالفوز بالمعية المحمدية:
التساؤل الأول: كيف يجعل المرء سيّد البشر محمداً رسول الله عليه صلوات الله هو الأقرب إليه من كل أحد؟ وبكلام آخر: ما المطلوب من الإنسان أن يعمل ليكون المصطفى المجتبى عليه صلوات الله هو الأقرب إليه من كل قريب؟ وفي إطار الإجابة نقول: إن الفوز بالمعية المحمدية لا يتطلّب القيام بأعمالٍ معينة، بل يكفي أن يتخذ المرء قراراً إرادياً بأن يجعل المصطفى المجتبى عليه صلوات الله هو الأقرب إلى ذاته من كل قريب لديه نسباً أو قلباً. وحتى يتحقق ذلك، فإن المرء يسعى بكلية مكوناته الذاتية ليكون سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله موجوداً في وجدانه وروحاً لذاته من جميع الوجوه؛ كما في الصلاة العظيمية، وكما في أناشيد الأسرة الدندراوية «أنت فينا أنت فينا أنت فينا فلا نضام يا نبينا ما دمت فينا».. ولا قرب أقرب من أن يكون صلوات الله عليه فينا وروحاً لذواتنا.
التساؤل الثاني: لماذا خصصت الوثيقة البيضاء “الوالدين” في مقام القرب القريب من الإنسان دون غيرهما من الأهل والولد؟ نقول في إطار الإجابة: إن المرء بامكانه أن يهجر هجراً جميلاً، لسبب شرعي، أي مقرّب إليه من الناس سواء كان ولداً أو رفيق درب أو شريك حياة أو صديقاً أو جاراً، إلا أنه لا يوجد أي سبب يعطيه الإذن شرعاً بهجران والديه، ومن يفعل ذلك يكون عاقّاً، والعقوق من كبائر المعاصي. فالرابط بالوالدين لا يقطعه إلا كل معتد أثيم، ومن هنا نفهم المعنى الذي أراده جيل الصحابة، وهم الجيل الأول من أهل معيته صلوات الله عليه، عندما كانوا يقولون لسيدنا رسول الله r: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله».
ورغم أن الوالدين هم أقرب الناس إلى المرء، ولهم واجبات لا تسقط، إلا أن العلاقة بهما تظل مشروطة ومحدودة ومؤقتة وخاضعة للصيرورة. أما علاقة الإنسان المحمدي بالمصطفى المجتبى صلوات الله عليه، فهي علاقة ارتباط لا ينفك حتى بمَوْت الإنسان نفسه، وهي علاقة قرب غير مشروط وغير محدود ودائم غير مؤقت وثابت لا تمسه صيرورة.
الفقرة الثانية.. معيار نستدل منه على رتبة المؤمن في معيته لسيد البشر r: نعرف من النظر في أخبار الصحابة الكرام، الذين هم الجيل الأول من أهل المعية المحمدية، بأنهم لم يكونوا جميعاً على رتبة واحدة في معيتهم لسيد البشر عليه صلوات الله. ونعرف من ثناء سيدنا رسول الله عليه صلوات الله عليه على الواحد من كبرائهم، بتعداد مآثره وعظيم أعماله اعلاءً لشأنه، بأن المعية المحمدية يأتي معها واجبات، وأن أهلها يتراتبون تبعاً لعظائم تأدياتهم وفروسيتهم في الالتزام.
لقد سبق وقلنا فيما نقدّم، إن المؤمن يخرج من معيته للمصطفى المجتبى صلوات الله عليه، إن خرج من تحت راية الزعامة المحمدية الجامعة باِحداثِ خَرْقٍ في لحمة جسد الأمة. وهنا نقول؛ إن المقياس الذي نستدل به على تقدّم الواحد من أهل المعية المحمدية على غيره من المؤمنين هو: مدى فاعليته في حمل راية الدفاع عن القضايا المحمدية وحراسة الأعتاب النبوية.
وختاماً،
نقف اليوم في نهايات الربع الأول من الألفية الثالثة لنقول؛ من المنطقي أن الإنسان الذي يدّعي أنه في معية النبي الأمي r وقريباً منه، أن يهتم بكل ما يخصه صلوات الله عليه، ثم يحوّل هذا الاهتمام إلى عمل تغييري قدر الإمكان. وبناءً عليه، فإن لفظ الأعتاب في عبارة “حراسة الأعتاب” لا يدل في المثال على عَتَبَة باب، وإنما الأعتاب النبوية هي كل ما يخص شخصه صلوات الله عليه، وكل ما يهمه صلوات الله عليه.
ثم إن رتبة المؤمن في معيته لسيد البشر عليه صلوات الله لا تقاس فقط بحجم دفاعه الفكري بسلاح الكلمة، ولكن بأن يقوم المؤمن على حراسة الأعتاب النبوية.. وأولى هذه الأعتاب هي عتبة مزدوجة تتمثل في مسعيين هما: بناء إنسان الأمة، وحراسة واحدية وجود الأمة.. نعم، إنّ كل من تصدى للدفاعٍ عن القضايا المحمدية وعن الأعتاب النبوية تحت راية الزعامة المحمدية هو من أهل معيته صلوات الله عليه ومن حَمَلَة رايته، ولكن قلّة منهم هم من خوّاص حَمَلَة رايته.. اللهم اجعلنا منهم حقاً وحقيقة وتحقُّقاً وتحقيقاً.
لا يوجد تعليقات