العِصْمَةُ المُحَمَّدِيَّةُ

   الإِسْلَامُ حَيَاتُنَا والسَّلَامُ مَعَاشُنَا    نحن نَعْلَمُ بالسياسة ولا نَعْمَلُ بالسياسة    حَرْبُنَا مَعَ أَعْدَاءِ الوَحْدَانِيَّةِ مَيْدَانُهَا الفِكْرُ وسِلَاحُهَا الكَلِمَةُ   جِهَادُنَا اجْتِهادٌ فِي العِلْمِ وجَهْدٌفِي العَمَلِ

العِصْمَةُ المُحَمَّدِيَّةُ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العِصْمَةُ المُحَمَّدِيَّةُ المُطْلَقَةُ ضَرُورَةٌ لِصِحَّةِ الدِّينِ ولِسَلامَةِ الارْتِباطِ بِشَخْصِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ

منذ أن أطلّ سيد البشر محمدٌ رسول الله عليه صلوات الله بشيراً نذيراً في مجتمع مكة المكرمة، أحبّ البقاع إليه، وعجز المكذّبون برسالته عن زحزحته بأشهى الوعود عن تبليغ وحي ربّه الجليل الأعلى.. قاموا بشنّ هجمةٍ شعواء على شخصه الكريم المكرّم صلى الله عليه وسلم، هجمةٍ تكوّنت عناصرها من التهم السائدة في عصرهم، فقالوا: ساحرٌ ومسحورٌ وشاعرٌ ومجنونٌ، وناقلٌ لأساطير الأولين.. وغيرها من الأباطيل التي أطفأها الله سبحانه بتنزيل آيات كريمة تنزّه المصطفى المجتبى صلوات الله عليه عما يقولون، وترفعه في مدارج الكمال الإنساني إلى نهايات عليائه، خاتَماً للنبيين وسيّداً للمرسلين، عليهم صلوات الله أجمعين.

توالت العصور، وتوالت إساءاتٌ إلى المَقام المحمدي تأخذ لبوس عصرها، ولكنها لا تلبث أن تسقط متهافتة ودون أثرٍ يُذكر بسبب وعي علماء المسلمين ويقظتهم لكل ما يخصّ سيد  البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله.

ولكن منذ حوالي الخمسة قرون ظهر فكرٌ ديني شَرَخَ صفوف المسلمين؛ علماء وعامة.. فكرٌ يعلن أصحابه حبَّ النبي عليه صلوات الله والإيمان برسالته الخاتمة، ومع ذلك أوصلتهم اجتهاداتهم العقلية إلى تحريم التوسل إلى الله تعالى بحبيبه ومصطفاه عليه صلوات الله، وأيضاً إلى تحريم الاستغاثة بالنبي صلوات الله عليه في المحن النوائب، وغير ذلك من القضايا المحمدية كالعصمة الكاملة وشدّ الرحال إلى الزيارة الشريفة.. والأدهى من ذلك، أن هذا الفكر طرح هذه القضايا المحمدية – أو بعضها – على أنها تجرح عقيدة التوحيد الإسلامية، وتجعل فاعلها مشركاً بالله تعالى دون قصدٍ منه. ونحن إذ نعترف لأهل هذا الفكر بحق الاختلاف في الرأي والرؤية، وحق تطبيق آرائهم ضمن دائرتهم الإنسانية، إلا أننا نُدين محاولاتهم فرض هذه الآراء على الأمة كافةً بقوة التخويف والتكفير، يتهدّدون بهما كل مَنْ لا يشاركهم نهجهم الفكري ولا ينضوي تحت مظلتهم.

وإزاء وَضْع أصحاب هذا الفكر الديني لمعتقداتٍ إيمانية في الذات المحمدية في سياقٍ يُخرج صاحبه عن ملّة الإسلام، كان لا بدّ من إعادة الأمور إلى نصابها.. وهكذا فعلت الوثيقة البيضاء في كتابها الأول، إذ ورد في سياق بنائي عَقَدي لا جدلي سجالي؛ أنّ الله ربَّ العالمين قد اصطفى سيد البشر محمداً خاتَم النبيين فجعله سبحانه مدخلاً للتوحيد.. فمن أراد الدخول في دين الإسلام فشَهِدَ أنْ لا إله إلا الله ولم يشهد أنّ “سيدَنا” محمداً رسولُ الله عليه صلوات الله فما دخل في عداد المسلمين.

إذن، إن خاتمَ النبيين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم هو “مدخل التوحيد“، ولن يكون أبداً مدخلاً للشرك لأحدٍ من العالمين، لأن الله سبحانه قد عصمه من الناس أجمعين بنص القرآن الكريم، عصمه من أن يرفعه أحدٌ فوق مقام المخلوق الأقدس، العبد الخالص لربه الجليل الأكرم.

قد يتبادر إلى أذهان بعض المثقفين، أن انشغالنا بالقضايا المحمدية يجعلنا أسرى الماضي، ويُلفتنا عن معالجة التحديات الكبرى والجذرية التي تواجه الإنسان والأوطان والأمة.. وقد وصلتْ إلى أسماعنا شذراتٌ من ذلك. لذا، نرى لزاماً علينا أن نجيب على السؤال: لماذا تتصدى الأسرة الدندراوية للقضايا الخاصة به صلوات الله عليه؟

فنقول:

أولاً، إنَّ تصدّينا للقضايا المحمدية ليست دفاعاً عن تاريخ قدسي، بل هو عملٌ قطوفُهُ دانيةٌ في الحاضر اليومي. وذلك لأن النبي الأمي عليه صلوات الله ليس فقط؛ حياً في “روضته الشريفة” كغيره من الأنبياء والمرسلين، بل هو صلوات الله عليه – اليوم وكل يوم إلى آخر الزمان وفي الآخرة – صاحب دور وفعل في حياة المؤمنين به. ومن هنا، فإن التصدّي للقضايا المحمدية هو بمثابة إزاحةٍ لحجاب الزمن ولغشاوة الغفلة، ليكمّل كلّ مسلمٍ دينَه فيُنشء علاقةَ ارتباطٍ مباشرٍ بالشخص الكامل الذات الذي خصّه ربّه الجليل الأعلى بالفردية في خصائصه، فينهل منها المرتبط به صلوات الله عليه ما يُصلح له أمور دينه وشؤون دنياه.

ثانياً، إنّ تصدّينا للقضايا المحمدية ليس لنوجد فرقةً وتفرقةً فيما بيننا وبين المسلمين الذين يتباعدون عنا بفكرهم فيما يخص سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله. وهذه مسألة قد يغفل عنها الكثير.. إن الأسرة الدندراوية لا تتصدى لهذه القضايا المحمدية (العصمة، التوسل، الاستغاثة…) في سياق خلافي ولكن في سياق يمكّن المسلمين من أن ينعموا بالعطاءات المحمدية.. سياقٍ يعرّف كلّ واحدٍ منهم أنه إن أصلح معتقداته وعلاقته بشخص رسول الله عليه صلوات الله، فإنه يضمن لنفسه قربةً ورجاءً مسموعاً عند شخص عظيم له عطاءات، وإمدادات، وتدخّلات قد تغيّر الحال المضني،  الديني والدنيوي، إلى أحسن الحال.

هنا، وبعد هذين الجوابين، قد يسأل مستمعٌ قائلاً: إنَّ مَنْ يُنصتَ إلى كلامكم يرى أن المعتقدات الإيمانية الحقة في الذات المحمدية هي عندكم فاعلٌ حضاري؟ فما هي الإضافة التي تقدّمها الأسرة الدندراوية إلى الحوار السجالي المستمر منذ قرون حول القضايا المحمدية؟

فنقول؛ إن أفق الإضافة مفتوحٌ أمام الأسرة الدندراوية وأمام غيرها من جَمْع إنسان محمد ، ولكن أكتفي بالتوقّف عند إسهامين؛ يتحرك الأول منهما في فضاءٍ عَقَدي وجداني، والثاني في فضاءٍ عَقَدي معرفي.

الإسهام الأول.. تفعيل الحب النبوي في أعمال تخدم الأمة.

إن حبّ النبي الأمي عليه أجمل صلاة وأفضل تسليم هو جزء الإيمان وشرطه.. فلا يدخل الإيمان في قلب إنسان إن كان لا يحب من خصّه ربّه الجليل الأعلى بحبّه الأسمى، ولا يكمل إيمان مؤمن إن لم يكن النبي الأغلى أحبّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.. هذه قضية إسلامية محسومة بنصوص قدسية.

ومن هنا، فإن إسهامنا كأسرة دندراوية لا يتمحور حول تأكيد محبة النبي الأغلى صلوات الله عليه (فهذا محسوم كما تقدم)، وإنما حول بيان ماهية هذا الحب الشريف ثم تفعيله في أعمال تخدم الأمة.. وفي الفقرات الأربع الآتية نورد منطلقات للتعريف والتفعيل:

1″- إن حبَّ النبي عليه صلوات الله – المطلوب شرعاً – هو حبٌّ وجداني ينبع من عقيدة الإنسان. ومن جوهر ماهية هذا الحب إنه يلازم الإنسان في أحواله كلها، ويجعل تعاملاته المهنية ومعاملاته الإنسانية وتصرفاته كلها وفقاً لما جاء به صلوات الله عليه.. لأنه صلوات الله عليه قرآن يمشي على الأرض، ويدور معه الإسلام الحنيف أينما دار.

إذن إن حب النبي ليس حباً عاطفياً مقصوراً على مشاعر نفسانية تزيد وتيرها عند ذكره صلوات الله عليه في المجالس، وتنحسر أمواجها عن الأسواق عند البيع والشراء، وعن جنبات الدنيا عند معاملة الزوج والولد والجار والمعلّم والزميل والرفيق وعابر السبيل..

2″- إن حب النبي عليه صلوات الله إنْ سَكَنَ فؤادَ إنسانٍ شرّبه كريم الخصال وبَسَطَه على وسع الأمة.. لأنه حبٌّ لسيد الأمة وزعيمها عليه صلوات الله.. ولذا فهو يُخرج الإنسان عن ضيق أناه إلى رحابة الحرص على المؤمنين كافة، وفسيح الرحمة بالعالمين قاطبةً بل بالأكوان كلها وكائناتها..

3″- أحبّ الصحابة الكرام شخص سيد البشر خاتمَ النبيين عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، فحرّك هذا الحبّ الشريف طاقاتهم وقواهم، وأظهر قدراتهم العلمية والعملية، ورسم معالم هوياتهم وشخصياتهم.. لقد خاضوا معه في كل بحر وكانوا معه في كل أمر.. جاهدوا بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم وما يتقنون، لخدمة رسالته المحمدية الخاتمة؛ في نشر الإسلام وجَمْع المسلمين.

واليوم عندما نذكر كبار الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أجمعين، نستشف عظيم حب الواحد منهم من خلال عظيم أعماله وعظمة مواقفه.. إنهم حقاً “رجالٌ لهم أعمال”.

4″- لم يترك رسول الله عليه صلوات الله أمراً إلا وأتمّه.. ففي الفقرة السابقة رأينا الأعمال التي تنطلق من طاقات الإنسان الشخصية وقدراته المعرفية لخدمة الأمة، فأتمّ رسول الله عليه صلوات الله دائرة العمل برسم القوس الثاني، الذي ينطلق فيه العمل من حاجة الأمة، وينتظر أن يتقدّم شخصٌ للقيام به.. فكان صلوات الله عليه يقول أحياناً: مَنْ يفعل كذا وله كذا.. كما كان صلوات الله عليه إن جاءه وفدٌ من بلاد بعيدة يحتاج إلى معلم أو فقيه أو قاض ينظر في صحابته ويختار للعمل الشخص المناسب.. وبذلك أرانا رسول الله عليه صلوات الله، أنه كما يوجد “رجالٌ لهم أعمال”، كذلك توجد “أعمالٌ لها رجال”.. ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أننا لا نحبس عمل كبار الصحابة والصحابيات تحت عنوان “رجالٌ لهم أعمال”، استغفر الله تعالى أن نكون من الظالمين، فالكثير من إنجازاتهم كان منطلقه حاجة الأمة، بحيث إنه – على ما وَصَل إلينا – لم يطرأ في الأمة عملٌ إلا كان له رجلٌ.

الإسهام الثاني.. التعريف بالعطاءات المحمدية ومفاتيح الاستمداد منها.

إنّ العطاءات المحمدية كثيرةٌ وهي خصائص خصّها الله به صلوات الله عليه. وقد دلتنا الوثيقة البيضاء في كتابها الأول والثاني على بعضٍ منها.. ومفتاحُ كلُّ واحدةٍ من هذه العطاءات معلقٌ بواحدة من القضايا المحمدية.. ومن هنا، تسهم الأسرة الدندراوية في تعريف المسلم ببعض هذه العطاءات ومفاتيحها.

وأكتفي بذكر ثلاثة من المفاتيح المعلّقة بثلاث من القضايا المحمدية هي: التوسل إلى الله تعالى برسوله ومصطفاه ، والإكثار من الصلاة عليه صلى الله وسلم عليه، والارتباط بشخصه صلوات الله عليه..

1″- التوسل وما يفتح من عطاء إلهي كرامة للنبي الأغلى.. لقد جعل الله تعالى لكل شيء سبباً ولكل سبب سبيلاً، وقد تتعطّل بالإنسان الأسباب وتتنكب به السبل.. فإن توسل إلى الله جل شأنه برحمته للعالمين صلوات الله عليه، ييسّر الجليل الأكرم الأسباب ويسهّل السُبُل كرامةً للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

2″- الإكثار من الصلاة على النبي ينجي في مواقف التمحيص الإلهي.. لقد أراد الله تعالى أن يضع كافة المؤمنين في مواقف تمحيص ليمتحن تعالى صدق إسلامهم أو حقيقة إيمانهم أو قوة ثباتهم أو قدرة صبرهم.. فمن كان كثير الصلاة والسلام عليه ، أذن الله تعالى لمصطفاه ومجتباه  أن يأخذ بيده فيكون من الناجين من أي موقف تمحيص.

3″- الارتباط بشخص سيد البشر يخفف البلاء عند نزول القضاء.. عندما يريد الله سبحانه أن يصيب كافة المؤمنين – في زمان أو مكان – ببلاء عظيم، فينزل القضاء بوزن الجبل.. ومن العطاء الإلهي الكريم للنبي الكريم عليه صلوات الله، أن يُظهر تعالى جميل ولايته صلوات الله عليه بالمؤمنين، فينظر جل علاه بعين عفوه إلى كل من ارتبط بشخص المصطفى المجتبى فيلطف تعالى في قضائه بقدره، فينزل القضاء ببلائه عليهم على وزن جناج البعوض..

وهكذا فإن الأسرة الدندراوية تترجم محبتها للنبي الأغلى عليه صلوات ربّه الجليل الأعلى، ومعرفتها بالعطاءات المحمدية، إلى طاقةٍ تحرّكها للقيام بأعمالٍ تفيد الوطن والأمة.. فيتولد عن ذلك حركة نهوضية عمرانية وإنسانية، وتنمو قوة الرحمة والرأفة والحب والخير فتتمكّن من دحر القوى الظلامية المشحونة بالبغض والكراهية والقسوة والعنف والإرهاب.

وأختم فأقول؛

إن العمل الفكري في قضايا دينية كبرى تخص سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله، يتطلّب إعادة التفكُّر في النصوص القدسية والبحث والتنقيب في كتابات السابقين الممتدة على أطوال قرون أربعة عشر.. لذا، فهو عملٌ يتطلب إنشاء شبكة شراكة بين كل المهتمين بالدفاع عن هذه القضايا.. ومن هنا تطمح الأسرة الدندراوية في أن تشكّل منصةً (platform) يسهل على كل العلماء والعاملين المشاركة فيها، والاطلاع على سير العمل ومراحله ومنجزاته.. إننا نسعى إلى “وَصْل العقول” ببعضها البعض، وليس إلى تواصلها فقط؛ ففي التواصل تنفتح العقول على بعضها مع بقاء ذاتية كل منها، أما في “الوَصْل” فتندمج العقول كلها لتصبح عقلاً واحداً عظيماً، يتحرّك إعقاله في وجهةٍ، تعبّر عن وجدان أمة المسلمين وتنهض بتحدياتها في العالمين.