مواكبة الفكر الدندراوي لأحداث العصر

   الإِسْلَامُ حَيَاتُنَا والسَّلَامُ مَعَاشُنَا    نحن نَعْلَمُ بالسياسة ولا نَعْمَلُ بالسياسة    حَرْبُنَا مَعَ أَعْدَاءِ الوَحْدَانِيَّةِ مَيْدَانُهَا الفِكْرُ وسِلَاحُهَا الكَلِمَةُ   جِهَادُنَا اجْتِهادٌ فِي العِلْمِ وجَهْدٌفِي العَمَلِ

مواكبة الفكر الدندراوي لأحداث العصر

بسم الله الرحمن الرحيم

“مواكبة الفكر الدندراوي لأحداث العصر”

يتزاحم اليوم تياران كبيران، حول النهج الأمثل لـ”نظام الحياة” في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة: تيار يسمي نفسه “ليبرالي”، وتيار تنضوي فيه جماعات ومجموعات متعددة، مؤتلفة حيناً ومختلفة متنازعة حيناً آخر، ولكن يجمعها كلها – في منطوق الناس – اسم “إسلامي”. وفيما يأتي نوضح موقعي هذين التيارين في المشهد الفكري السياسي المعاصر:

التيار “الليبرالي”:

بدأت طلائع هذا التيار تتكوّن بعد اطّلاع رفاعة الطهطاوي على النموذج الحياتي في الغرب ورجوعه إلى مصر. وحيث إن تاريخ الفكر السياسي ليس هدف هذه الصفحات وإنما هدفها فهم وتصوير الواقع الفكري السياسي الراهن، لذا نكتفي بهذه الإشارة إلى رفاعة الطهطاوي لأنها تمكننا من رصد التوجّه الاجتماعي السياسي لهذا التيار وملخصها:

إن النموذج السياسي الأمثل وبالتالي الاجتماعي هو النموذج الغربي. إن أنصار هذا التيار مقتنعون بأن نموذج الاجتماع الغربي أكثر ملاءمة للإنسان من النموذج العربي السائد في زمانهم.. وبدأت كتبهم ومجالسهم تدعو إلى احترام الحريات السياسية وإلى إرساء مجتمع مدني لا يقطع مع الإسلام، ويكون فيه الشعب هو مصدر السلطة.

ثم على إثر الحرب العالمية الأولى بدأت الدول القوية تتباحث حول إقامة تنظيم جديد للعلاقات الدولية، يحقق الأمن والسلم الدوليين بصورة دائمة، ويضمن السيادة والاستقلال السياسي لكافة الدول المشاركة. فألّفت هذه الدول جمعية عالمية قامت بوضع مشروع ميثاق أقرّته مع باقي الدول، وعُرف باسم “ميثاق عصبة الأمم” [عام 1918 م].

وبعد الحرب العالمية الثانية، ترسّخت فكرة إنشاء منظمة دولية تضمّ الشعوب المختلفة وتعمل على حماية حقوق الإنسان والحريات، إضافة إلى حفظ الأمن والسلام الدوليين. بكلام آخر، بعد الحرب العالمية الثانية بدأ خطاب الحقوق والحريات بالظهور على المستوى التنظيمي العالمي إلى جانب الهمّ السابق وهو السلم والأمن الدوليان. وقد تُرجم ذلك بميثاق الأمم المتحدة المؤلف من مئة وإحدى عشرة مادة، والذي تولّدت بموجبه “منظمة الأمم المتحدة” [1945 م] التي تقوم وإلى اليوم بمهمة حفظ الأمن والسلام الدوليين وحماية حقوق الإنسان.

وتدور معظم مواد هذا الميثاق الدولي على حفظ السلم، وعلى أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وعلى المساواة بين الرجال والنساء وبين الأمم كبيرها وصغيرها، باعتبار أن مبدأ المساواة هو الأساس الذي تُبنى عليه جميع حقوق الإنسان.

وفي عام 1946 كُلفت لجنة الحقوق بإعداد شرعة دولية لحقوق الإنسان، تم اعتمادها في عام 1948 باسم “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. هذا الإعلان الذي ينص على الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكلّ الرجال والنساء في أي مكان في العالم دون تمييز.

وابتداء من هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بدأت تظهر مواثيق واتفاقيات دولية وعربية،  مختصة بموضوع واحد (المرأة – الطفل – العمل…)، وشاع خطاب حقوق الإنسان، وأصبح له دُعاته في البلدان العربية والإسلامية.

وحيث إن الدول العربية والإسلامية وقّعت هذه المواثيق الدولية، فوجب عليها الالتزام بها، لذا نجد التيار الليبرالي في المجتمع الإسلامي يصرّ على الاندراج في السياق العالمي، ويرى أن الحل الوحيد هو في إنشاء دولة حديثة ديمقراطية، تفعّل مواد المواثيق الدولية، وتقود شعبها إلى الحداثة ومواكبة العصر.

التيار “الإسلامي”:

في مقابل “الليبرالي” برزت على امتداد الشعوب المسلمة جماعات ومجموعات إسلامية يمكن أن نضمها في تيار واحد، وإن لم تكن جميعها على درجة واحدة من التشدّد في مقولاتها والتعصُّب لها؛ فالبعض يكفّر كل من يخالفه الرأي، والبعض الآخر يجهّل ويهفّت من يخالفه دون أن يكفّره. ومن أبرز مقولات هذا التيار: أن المجتمع المدني بدعة وضلالة، وأن الدولة الشرعية هي الدولة الدينية فقط، وأنّه لا قانون إلا شريعة الإسلام، وأن الغرب اتخذ الإسلام والمسلمين عدوّاً، لذا فهو مصدر الشرّ والمكائد والمؤامرات، وأن كافة ما يعلن عنه الغرب في مواثيقه الدولية من حريات وحقوق إنسان لا يحترمها إلا مع شعوبه الغربية. أما عندما يتعامل مع الشعوب الضعيفة فهو أكثر توحّشاً من إنسان القرون الوسطى. فالغرب منافق مزدوج الخطاب.

وفي الوقت نفسه يؤكّد هذا التيار أن المجتمعات الغربية حالياً في مأزق، وأن الإنسان الغربي غير سعيد وغارق في مشاكل حياتية، لأنه مارس عملية خلخلة للطبيعة البشريّة عندما “سيّب” المرأة وشرّع العلاقات الشاذة والعلاقات خارج الزواج، فتفككت العائلات وضاع الأطفال وانغرست العُقَد عميقاً في نفوس المراهقين. وتصرّح جماعات هذا التيار بأن المدنية الغربية مادية وآيلة للسقوط، وأنها لا إنسانية، وأن كل ما تعلنه من حقوق للإنسان هي واجهات برّاقة تخفي بؤس الإنسان في مجتمع مادي متوحّش، يستخدم الشباب ويخلّف وراءه دون أسف الرجل والمرأة عندما يتخطيان الأربعين من العمر.. إنه عالم يخشى فيه الإنسان على شيخوخته، يخشى من الموت وحيداً في دار للمسنين، حيث لا يرعاه ولد ولا زوجة ولا أهل.. إنها حياة لا تليق بكرامة الإنسان.

وهكذا، ترى جماعات هذا التيار بأن سعادة الإنسان وضمان شيخوخته وحبوره في أهله وبين ناسه وجيرانه وأهل منطقته، كل هذا يحفظه الإسلام.

فتطبيق الإسلام هو الحل لكلّ المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لذا نرى جماعات هذا التيار تسعى لاستلام السلطة لتطبيق الإسلام من منظور فهمها له، واعدة الناس بسعادة الدارين.

الفكر الدندراوي.. موقفٌ ثالث وموقع ثالث.

إن الناظر في مفاعيل هذين التيارين [الليبرالي والإسلامي] وآثارهما على عامة الناس، وخاصة في المجتمعات العربية المسلمة، سوف يلاحظ:

أن التيار الليبرالي ولّد عند المواطن حالةً من الرفض للأوضاع القائمة، بعد أن قاس المسافة بين نصوص المواثيق الدولية وبين واقعه الحياتي. ثم في حال كان هذا المواطن لا يمتلك ثقافة سياسية فإنه سيقع في وهمه بأن الديمقراطية تعني فقط حكم الأكثرية، وبالتالي سوف ينزل إلى الشارع عند رفع مطلق شعار يتجاوب مع حاجاته الشخصية ومع آماله وطموحاته، فتعم الفوضى في البلاد وتتعطل الحياة. والسبب، أن هذا المواطن أغفل الوجه الثاني للقطعة النقدية التي اسمها “ديمقراطية”؛ فوجهٌ منها يعني حكم الأكثرية، والوجه الثاني يعني المحاسبة والمساءَلة. فلا ديمقراطية دون محاسبة ومساءلة. إن الشعب – في النظام الديمقراطي – هو مصدر السلطة، يوصل من يتوسم فيه خيراً إلى سدّة الحكم، وعليه بعد ذلك أن ينتظر ويراقب أداء الحكومة ويطّلع على نتائج أعمالها ثم يحاسب ويسائل، فإن وجد ارتفاعاً في معدل التنمية وهامش الفساد ضعيفاً، عاود التصويت للأشخاص أنفسهم أو انصرف عنهم إلى توسيد الأمر لغيرهم وهكذا. فاللعبة الديمقراطية لا تنتهي باختيار المرشحين والتصويت لهم، بل هي عملية متسلسلة واعية تجعل الكل شركاء في حكم أنفسهم. وقد نبّه سيدنا أبو بكر الصديق t على دور المواطن في الرقابة على الحاكم حين قال في خطبة توليه الخلافة، بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: “أما بعد: أيها الناس، فإني قد ولِّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله”.

أما جماعات التيار الإسلامي فالملاحظ أن عامة المنصتين لمقولاتها والمعاشرين للمنتسبين إلى صفوفها يتسرب إلى نفوسهم نوعٌ من الخوف من كل شيء جديد، لذا تراهم ينفرون من كل مستحدث حتى لو كان حلالاً. إضافة إلى كراهتهم للأمور المستحدثة أصبح لفظ “حرام” لديهم هو الحكم على معظم أشياء الحياة، فيحرّمون استنساباً وانسياقاً مع وجهات نظرهم دون نص قدسي أو دليل شرعي.

وسط هذه الإشكالات ترى الأسرة الدندراوية أن لديها كلمة تقولها في هذا السياق عسى تحمل خيراً للناس.

نبدأ بأن الأسرة الدندراوية لها موقفٌ ثالث بين التيارين، ويتجلى هذا الموقف الثالث في أربع قولات:

القولة الأولى.. تتعلق بالدولة.

يقترب الفكر الدندراوي من التيار الليبرالي في مسألة أن الدولة الشرعية هي الدولة المستقرة اجتماعياً وسياسياً والتي تحفظ أمن المواطن وأمانه.

ويقترب من التيار الإسلامي في أنّه يرى أن دستور الدولة وقوانينها من الواجب ألا تخالف أحكام الإسلام، فلا تسنّ الدولة مثلاً قوانين تشرّع فيها الزواج المثلي أو الزنا أو غير ذلك.

القولة الثانية.. الأخذ بالحداثة.

يقف الفكر الدندراوي بين التيارين في مسألة الأخذ بالحداثة وبأسباب التقدم، فيرى أنه من واجب المسلم اليوم ألا يُعرض عن المستجدات الكونية والمستحدثات الاجتماعية والسياسية، بل يدخل في الحداثة والمعاصرة دون خوفٍ من الوقوع في الكفر والحرمانية، شرط أن يكون دخوله نقدياً، واعياً لأبعاد المسائل المطروحة وباحثاً عن “الاجتهاد” العلمي الموضوعي بخصوصها.

إن الأخذ بالحداثة من موقع إسلامي متنور هو الموقف العقلاني بين حدين متناقضين هما: علمانية الغرب ببعدها الفجّ والعدائي، وشعارات الإسلام السياسي المعرقلة لحركة التقدّم. [الحداثة ليست حقبة زمانية ولكنها نسق فكري واجتماعي متكامل ومن مقوماته: النقد العقلاني للذات، القطيعة مع القديم، النظرة المادية للكون والسيطرة على موارد الطبيعة، عقلانية المجتمع، الحرية، تحقيق رفاهية الإنسان، العدالة والمساواة بين الجميع في توزيع الخدمات والوظائف والمعاملات…].

القولة الثالثة.. المواطن الصالح.

إن الفكر الدندراوي لا يزاحم التيارين المذكورين على السلطة – لأن الأسرة الدندراوية لا تعمل بالسياسة – كما أنه لا يدّعي أنه يمتلك مشروعاً سياسياً معاصراً يوازي مشروع الليبراليين “الحاضر” [= مشروع الغرب] أو مشروع الجماعات الإسلامية الذي لا يزال في طور التكوين [إنهم يعدون به بعد استلام السلطة].

إذن كل ما يقول الفكر الدندراوي؛ إنه يريد بما يملك من رؤية إنسانية إسلامية أن يشارك في بناء المواطن الصالح، الذي يكون مصدر أمن وسلام لمجتمعه، وجزءاً حيوياً في عملية التنمية.

القولة الرابعة.. ارتباط الإنسان يحدّد تفاعله الاجتماعي.

على حين أن التيار الليبرالي ليس ضدّ الدين ولا يعاديه، ولكنه يرى أن دوره يجب ألا يخرج عن إطار الشخص، فكل إنسان حرّ في أن يعتقد ما يريد ويعبد ما يريد. أما في الحياة الاجتماعية فالقوانين والأخلاقيات المؤسساتية هي التي يجب أن تكون حاكمة بين الناس وليس الدين.

وفي المقابل ترى الجماعات الإسلامية أن الدين كافٍ لتوليد رادع داخلي لدى الشخص المؤمن، وأيضاً لإقامة حياة اجتماعية متماسكة وصالحة في ظلّ الالتزام بأحكام الشريعة. ولكن للأسف تظلّ مقولات هذه الجماعات كلّها في سياقٍ خطابي عمومي غير مصحوب بتقديم تصورات إسلامية في المجال الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، توازي في جهوزيتها وشموليتها ما تطرحه المواثيق الدولية والاتفاقيات الإقليمية.

وفيما بين التيارين والسجال بينهما تطرح الأسرة الدندراوية، ومن منظور إسلامي، فكرة الارتباط الإنساني ودوره في بناء الذات وشبكة العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية.. وهذا هو موضوع الفقرة التالية.

الارتباط الإنساني ومحوريته في التعامل الاجتماعي.

يرى الفكر الدندراوي أن إسلام المرء يفرض عليه الارتباط بشخص الرسول المصطفى والزعيم المجتبى صلوات الله عليه.. وقدّم على هذه الفريضة الإسلامية العديد من البراهين المستنبطة من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي الشريف ومن حياة الصحابة والسلف الصالح. وهذا موجود في كتبنا فلتراجع.

والارتباط في لغتنا الدندراوية ليس شعاراً أو مقولة فضفاضة عمومية، بل هو معنى محدّد يتجلّى في فعلين: الأول مداره الذات، والثاني مداره الحياة الاجتماعية بكل تشعباتها.

أما الفعل الأول الدال على صدق ارتباط المسلم بشخص سيد البشر صلوات الله عليه، فهو أن يجعله r صاحب السيادة الشاملة على وجدانه. وبهذه السيادة المحمدية على الوجدان يصبح الالتزام بقيم الإسلام أداة تغيير لتكوين الإنسان. لأن المسلم سوف يؤدّي عندها التزامه بالإسلام متأسّياً بالمصطفى المجتبى صلوات الله عليه.

وينتج عن ذلك أن تظهر فاعلية الإسلام في مكونات الإنسان، فتجعل بدنه نظيفاً طاهراً، وروحه نقياً شفافاً، ونفسه مهذبة سامية، وعقله مضيئاً مستنيراً.. وهذا الإنسان، صاحب هذه المواصفات الذاتية هو موضع ثقة الجميع، ومؤهّل ليكون لبنةً في بناء المجتمع. وأبعد من ذلك، مؤهل ليكون خيطاً في نسيج أمة المسلمين على امتداد مجتمعات الإسلام.

وإذا تدبرنا المواصفات الذاتية لهذا الإنسان المرتبط، نجد أنه – بسب تمتعه برادعٍ داخلي – بعيدٌ عن كل ما يجرح نظافته وطهارته وسموه النفسي مما يشيع من أشكال الفساد الأخلاقي والمالي، وبعيدٌ أيضاً عن كلّ أشكال الغش والغدر وخيانة العهد والوعد. كما أنه بعيد بعقله المستنير المضيء عن الانخداع ببريقٍ زائفٍ يأتي من مقولة شرقية أو غربية، وبعيدٌ عن الهوجائية والغوغائية والفوضى والسلبية.

والفعل الثاني الدال على صدق ارتباط المسلم بشخص سيد البشر صلوات الله عليه، هو أن يجعله r صاحب الزعامة الجامعة في وجوده الإنساني. وهذا يعني أن المسلم المرتبط هو عنصر جمع في مجتمعه لا عنصر تفرقة، لأن الزعامة المحمدية جامعة للناس لا مفرّقة لهم.

ومن يتخذ شخص المصطفى صلوات الله عليه زعيماً في وجوده فإنه سيتفاعل مع محيطه الإنساني [العائلة، المجتمع، المواطن..] في سياق تآلفي مسالم، بعيداً عن الفجاجة والفظاظة، وعن إقصاء الآخر بالتكفير والتجهيل والتحقير.

إن من يجعل المصطفى المجتبى صلوات الله عليه زعيماً في وجوده، فإنه سينتمي إلى ذاته النبوية المتفرّدة ويطوّع عقله ونفسه وروحه وبدنه، أي مكونات ذاته كلها، للحفاظ على وحدة الجماعة وتماسك المجتمع، المحركين للتنمية والرفاه، والكفيلين بإزاحة شبح مجتمع الخطر.

وتظهر فاعلية الانتماء لسيد البشر r في مكونات الإنسان؛ على الشكل الآتي:

إنّ عقل المسلم المرتبط يتّسع عقله لقبول الآخر المختلف عنه في نهج الفكر. والقبول لا يعني التماثل وفقدان الهوية الفكرية، بل العكس فإنّ قبول الآخر يعني قبول الاختلاف دون الوقوع في خلاف مع المختلف. ولا يصبح قبول الآخر ممكناً من دون أن يتفهّم عقل المسلم المنتمي إلى الذات المحمدية المتفردة، فائدة التنوع الفكري، وواجب الحفاظ عليه، وعدم اتخاذ خطوات أو القيام بمحاولات لقهر الجميع على اتباع نهج فكري واحد [النهج الفكري السلفي أو الصوفي أو التعاوني الاجتماعي أو التنظيمي النضالي].

أما النفس البشرية للمسلم المنتمي للذات النبوية المتفردة، فلا تستشعر حقداً أو حسداً لشخصٍ يفضلها في وضعه الاجتماعي، إما على المستوى المالي أو الوظيفي أو الشخصي أو العلمي… والسبب، أنها سبق وتهذّبت – على الصعيد الشخصي – من النقائص وسمت بالشمائل بسبب السيادة الشاملة للمصطفى المجتبى r على الوجدان. وهي الآن – على الصعيد الاجتماعي والوطني – تدلّل على صدق انتمائها للذات النبوية المتفردة، بالمحافظة على تماسك المجتمع واستقراره، وذلك باستشعار عدالةٍ في الأعماق قُبَالة التنوع الطبقي.

والروح البشري للمسلم المنتمي للذات النبوية المتفردة، لا ينفر من أي إنسان مغاير له في لون العرق، لأن زعامة المصطفى المجتبى r جامعة في الوجود الإنساني. وهذه سمة ثمينة للمسلم المرتبط، لأن معظم البلاد العربية والمسلمة تجمع في شعبها الواحد قوميات متعددة.. فالمسلم هنا يألف روحه التعدد القومي فيتلاحم في جمع واحد مع الجميع.

والبدن البشري للمسلم المنتمي للذات النبوية المنفردة، لا يرفض التكيف – وبشكل مزاجي – مع تنوّع تضاريس البلاد. ولذا، فإن طُلب منه الانتقال من إقليم إلى آخر بداعي العمل والوظيفة أو انتقل خيارياً بداعي تتبّع أسباب العيش، فإنه سينتقل راضياً محتملاً للتغيُّر المناخي والإقليمي، دون أن يصبّ جام غضبه على كل عشير له ورفيق، أو على الدولة، أو على الشخص الذي كان وراء هذا الانتقال.

باختصار، إن الانتماء للذات النبوية المتفردة، واليقين بأن المصطفى المجتبى r هو الزعيم الأوحد للوجود، يجعلان المسلم صاحب عقل يقبل الآخر المختلف، ونفس لا تحسد المتمتع بوضع اجتماعي أفضل، وروح يألف ألوان الأعراق الإنسانية كلها دون تمييز لعرق على عرق، وبدن يحتمل التكيف مع متغيرات الأقاليم الطبيعية..

وإذا تدبرنا هذا التفاعل للمسلم المرتبط مع أهل مجتمعه وشعب وطنه نجد أنه برادعٍ داخلي، بعيدٌ عن كل ما يشقّ وحدة الجماعة، وأنه مصدر أمن وسلام لمجتمعه ووطنه، بما يحمل في ذاته من انفتاح على التنوع والتعدد.

وفي الختام؛ إن ارتباط المسلم بشخص سيد البشر صلوات الله عليه هو فريضة يؤديها الواحد بإرادة حرة مختارة. وإن مضامين هذا الارتباط ومفاعيله قابلة للتعميم على صيغة وثيقة إسلامية تأخذ شكل المواثيق والاتفاقيات الدولية والاقليمية.. إنه ميثاق يتعهد به المسلم أن يتعامل مع نفسه وغيره في العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية، على أساس أن المصطفى المجتبى r هو سيد وجدانه وزعيم وجوده. ويحمل هذه الأمانة ويعتبر نفسه ممثلاً لمقولة “الارتباط بشخص المصطفى المجتبى” صلوات الله عليه، ويتوقع أن كل شريك له في المجتمع والوطن سوف ينظر إليه على أنه تجسيد للمسلم المرتبط وبالتالي أي غلط ذاتي أو اجتماعي فسوف ينعكس على المقولة نفسها.

لذا، فعليه أن يحقق ثقافة التعدد والتنوع ويمارس التواصل الاجتماعي السليم، فيقبل الآخر المختلف، ويتسم بالألفة والمحبة لكافة أهل وطنه دون تمييز ثقافي أو عرقي أو طبقي أو جنسي، ويحرص على الأمن الاجتماعي ويسهم في التنمية بإتقان العمل وحُسن إنجازه.

إنّ الفكر الدندراوي يرى أن عملية الإصلاح الشاملة والمتوازية، ببعديها الديني والمدني، محورها الإنسان. وأن إصلاح الإنسان يبدأ من بناء داخله بناءً محمدياً متفاعلاً مع العصر، فيكون بذلك نواة لحداثة إسلامية، ولإحداث تغيير في قناعات العقول ومكنونات الوجدان البشري لا يقل أهمية عما أحدثته الديمقراطية الغربية في التاريخ المعاصر.