الهوية الإنسانية المتمكنة من التعايش السلمي مع المختلف

   الإِسْلَامُ حَيَاتُنَا والسَّلَامُ مَعَاشُنَا    نحن نَعْلَمُ بالسياسة ولا نَعْمَلُ بالسياسة    حَرْبُنَا مَعَ أَعْدَاءِ الوَحْدَانِيَّةِ مَيْدَانُهَا الفِكْرُ وسِلَاحُهَا الكَلِمَةُ   جِهَادُنَا اجْتِهادٌ فِي العِلْمِ وجَهْدٌفِي العَمَلِ

الهوية الإنسانية المتمكنة من التعايش السلمي مع المختلف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

“الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده”

وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد في ألوهيته والأحد في ربوبيته، وأشهد أن سيدنا محمداً الوحيد في سيادته والأوحد في زعامته.

 

الهوية الإنسانية المشاركة في التعايش السلمي مع المختلف

 

ارتفعت اليوم – من بين المجتمعات البشرية – الحدود والفواصل التي كانت حاضنة لخصوصيات الشعوب العقدية والعرقية والإقليمية والثقافية والاجتماعية. فباتت أجيال الإنسان المعاصر – وخاصة الشباب – تعيش في فضاء مكشوف، تتدفق فيه شتى أنواع الأفكار، وتسري عبر الأثير لتصل إلى كل شخص وفي كل مكان.

استشعر الأهل – والقادة التربويون جميعاً – المخاطر القادمة مع هذا الواقع العالمي الجديد، ولكن في الوقت نفسه أدركوا أنهم أصبحوا غير قادرين على متابعة مَنْ هم ضمن مسؤولية رعايتهم في حركة تواصلاتهم الاجتماعية الواسعة، وفي الوقت نفسه عاجزين عن رقابة مسافة وجودهم أو عن التواجد معهم في كل حين وكل مكان لحمايتهم.

ورغم أن المخاطر عديدة وعلى أكثر من مستوى، إلا أن ما يهمنا منها اليوم هو أن: ذاك الفضاء المكشوف وذاك السريان للأفكار مكّنا بعض أصحاب “الفكر الاقصائي”، الرافض كلياً وجزئياً لكل ما هو مغاير، من إيجاد مساحة واسعة للانتشار وجذب الشباب.

ونقف، مع كل من يهتم بأمر المسلمين، لنتساءَل ونتفكر: ما الذي يدفع شاباً عاقلاً متعلماً مثقفاً، وفي أغلب الأحيان آتياً من بيئة سليمة سمحة وذات جذور في مجتمع الإسلام، إلى تبني أفكار إقصائية، والانحياز إلى قبول أسلوب العنف في معالجة أمور الأمة؟

وتأتينا إجابات متنوعة وعديدة نتجت عن استقراء لهذا الواقع ومحاولة لفهم أسبابه، ومنها: الفقر وضغط الحاجات المعيشية، أو المشاكل الحياتية للشاب وظروفه الاجتماعية، أو الحصول على الاعتراف والمكانة، أو اكتساب عزوة والركون إلى قوة، أو الشعور بالقهر وبانسداد الأفق نتيجة ظروف محلية أو أحداث عالمية.. وغير ذلك.

ومن منطلق فكرنا الدندراوي، نرى أن كل ما تقدم لا يشكل سبباً لازماً يجعل الشاب يتطرف ويعادي كل مختلف.. بدليل، وجود آلاف الشباب الذين يعانون من أوضاع مماثلة ومع ذلك ظلوا متوازنين معتدلين ولا يرفضون كل مغاير. وهذا لا يعني أننا نهفّت هذه المحاولات لفهم الواقع، بل نثمنها، لأنها تكشف لنا عن المداخل والفجوات التي يستغلها بعض أصحاب الفكر الإقصائي لاختراق الشباب وإيقاعهم في شراكهم.

أما السبب الجوهري والأساسي – من منظورنا – فيكمن في أن هذا الشاب القابل للاختراق هو فاقدٌ للهوية الإنسانية المكتملة والمتماسكة.

ومن أجل تبيين ما ذهبنا إليه نتوقف عند أربعة محاور:

 

المحور الأول.. نظرة على أنواع الهويات الإنسانية المنتشرة في الشارع الإسلامي من حولنا

إن معرفة أنواع الهويات الإنسانية في البيئة العربية الإسلامية، والفهم الواعي لها، أصبح اليوم ضرورة حياتية، لأنه قد يكون السبيل الواضح للتفاعل الاجتماعي السليم وللتعايش السلمي وأيضاً للإصلاح الإنساني. ونرصد بإشارات سريعة ثلاثة أنواع من الهويات:

1- الهوية السائبة: وهي هوية غير مكتملة، ومشققة غير متماسكة، لأن صاحبها لم يشكّل مكامنها على نهج واضح له ولمحيطه، فأصبح أشبه بجهاز استقبال يصنع مرئياته بحسب ما يسمع من الغير. وهو غير عصي على الاختراق، فقد يتمكّن أي صاحب غرض داهية من التغرير به والنفاذ إلى خواصه الذاتية، والتلاعب بهويته الإنسانية، مما يسمح له بصبغ مرئياته الشخصية باللون الذي يختاره، ثم يقفل الهوية السائبة على أفكاره هو، خوفاً من أن ينفذ إليها سواه.

وهذه الهوية السائبة معرّضة لاحتمالات مفتوحة على الخير وعلى الشر. وهي قابلة للاختراق من قِبَل الصداقة والعشرة، ومن البث الإعلامي والتواصلي، ومن أصحاب المصالح والغايات والأغراض المشبوهة، وهي موجودة وبكثرة لا يستهان بها وخاصةً في فئة الشباب.

2 – الهوية المقفلة: وهي هوية أقفلها صاحبها، أو أُقفلت له، بشكل قسري وعنادي على أفكار إقصائية رافضة لكل حوار أو لكل محاولات تقريب. ومن سمات هذه الهوية المقفلة؛ أن صاحبها يعتبر نفسه الممثل الشرعي والوحيد للحق وللشريعة وللمجتمع الإسلامي الأول، وكل مخالف له – وإن كان مسلماً – فهو مخالف للشريعة وخارج عن نهج الأولين وعدو داخلي للإسلام.

ومن سماتها أيضاً أن صاحبها يفصل بحدة بين معتقداته وآرائه وبين معتقدات الآخرين وآرائهم، ويصنف الناس ضمن فريقين: فريقه هو (الأبيض) وفريق خصمه (الأسود). وفريق الخصم لديه هو كتلة واحدة ضخمة تضم كل مختلف ودون مراعاة لتمييز أو فروقات. وتنعدم بالتالي في ظل هذا التقسيم الثنائي الحاد كل إمكانية في إيجاد مساحة اجتماعية مشتركة، تكون بمثابة بساط التلاقي والتعايش مع المختلف.

3 – الهوية المنضبطة: وهي هوية استمد صاحبها مكامن خواصه الذاتية من تقواه في فهم الإسلام؛ أو اكتسب هويته من متابعته لنهج فكري لعالم من علماء المسلمين المخلصين، أو من انتسابه إلى تجمع صالح من تجمعات المسلمين (تجمعات المذاهب السلفية، الطرق الصوفية، الجمعيات الخيرية، التنظيمات الوطنية)..

إن هذه الهوية المنضبطة بالدين القويم ليست نوعاً واحداً، ولكن سماتها متشابهة، فهي في الأغلب: وسطية معتدلة، سمحاء بعيدة عن الغلو والتغالي، صعبة الاختراق، منفتحة على الحوار وحسن الجوار مع المختلف.. وهذه الهوية بأنواعها وتدرجاتها تشكل الغالبية المسلمة المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، وهي لا تزال ركائز قوة في مجتمعات الإسلام..

ومع ذلك، فإن ما يؤخذ على أصحاب هذه الهويات المنضبطة أنه ليس لديهم مشروع على مستوى الأمة واضح المعالم – فكرياً وتنفيذياً -، مشروع يمكّنهم من الانتقال من الهوية الجزئية إلى الهوية الجامعة القادرة على التفاعل الشامخ والمشاركة الحقيقية في التعايش السلمي مع المختلف.

 

المحور الثاني.. الهوية في عين الرؤية الدندراوية

إن الخاصية الذاتية للإنسان لا نراها بأعيننا ولا ندركها بعقولنا، إلا إن أفصح عنها صاحبها بأقواله وأفعاله. وعندما يبدأ بالإفصاح تبدأ هويته بالظهور. ينظر المحيطون به إلى أقواله وأفعاله، فيُسقطون ما يرونه تزييفاً لحقيقة هويته ووهماً، ويثبتون ما يعترفون به ويرونه حقاً. وترتسم من جملة ما أسقطوا وما أثبتوا صورة لهويته في أذهانهم وهي ما نسميه: الشخصية. إذن: الهوية هي مكامن خواص الإنسان الذاتية، والشخصية هي صورة هويته لدى محيطه.

بعد هذا التعريف للهوية والشخصية، نلتفت إلى الكتاب الأول من الوثيقة البيضاء لنرصد محددات الهوية في عين الرؤية الدندراوية، بكلام آخر: ما هي العناصر التي تحدد هوية مطلق إنسان في أعين محيطه؟ وعلى سبيل الإجابة نجد أن هناك أربعة مكامن تُظهر خاصية الإنسان الذاتية وتحدّد هويته وهي: حقيقة دينه التلقائي، ارتباط تكوينه الإنساني، إمكانية عمله الذاتي، مكانة دوره الجماعي.

هذه المحددات الأربعة مفصّلة في الوثيقة البيضاء ويمكن الرجوع إليها. مع الإشارة إلى أننا قاربنا في مؤتمرات سابقة المحدد الثالث والرابع أثناء طرحنا للتنمية الإنسانية.

يتضح مما تقدم، أن الرؤية الدندراوية لا تنظر إلى الهوية، وبالتالي لا تعمل على تشكيلها، على أساس عرقي أو قومي أو إقليمي أو اجتماعي أو طائفي.. بل على أساس إنساني عام، يتخذ صاحبها موقعه المعتدل بين الطوائف المتخصصة، والملائم لأنماط التعايش الاجتماعي، والمناسب لشعوب أعراق الأمة الأربعة.

ونختار من بين هذه المكامن الأربعة؛ لنتفكر به معاً، المكمن الثاني الذي يخبرنا أن فاعليات المكونات الذاتية للإنسان وتفاعلات مرئياته الشخصية يرشداننا إلى ارتباط التكوين الإنساني لصاحب الهوية.. وذلك لأهمية هذا المحدِّد وخطورته. وكذلك لإمكانية استنباط علاج منه لأزمة الهوية اليوم.

 

المحور الثالث.. المرئيات الشخصية تبني وتُعلي أو تدمّر وتفتت، تجمع وتؤلف أو تمزّق وتشتت

قبل الشروع في الكلام على المرئيات الشخصية لدى الإنسان، نبدأ بالتمييز بين مفهومين هما: الرأي والمرئية.

الرأي هو فكرة تتكون في عقل الإنسان: إما بإنتاج ذاتي أو بتأثير خارجي، وهي تتغيّر عند صاحبها تحت وطأة الأحوال النفسية أو البيئية وأيضاً الظروف المكانية والزمانية. والرأي لا يحدد هوية الإنسان إلا إذا تحول إلى رؤية تنتج فكراً “يجتاز حدود المكان ويتجاوز عصور الزمان”[1]، أو إذا تحول إلى مرئية شخصية ثابتة لدى الإنسان تحكم تفاعلاته مع محيطه البشري.

إذن، المرئية لا تتغير لدى الإنسان تبعاً لأحواله وظروفه، بل تظل ثابتة عنده، وموجِّهه لتفاعلاته مع محيطه ومواقفه. وتتشكل مرئيات الإنسان (مثل آرائه): إما بصناعة ذاتية، بأن يستقيها من هواه أو من هداه. وإما بمؤثرات خارجية، وتتمثل بارتباطه بشخص ما فيصنع له مرئياته ويصبغها باللون الذي يريد.

يتضح من بحث مفهوم المرئية مدى خطورتها في الاجتماع البشري، وعظيم تأثيرها في البناء والتدمير، في التأليف والتمزيق. وأن الإنسان قد يكون بموجبها لبنة في تماسك بنيان مجتمعه ولحمة في نسيج أمته، أو العكس قد يوقظ فتناً نائمة فيفرّق أهل مكانه وجمع أمته إلى فئات متعاندة ومتنافرة ومتناحرة.

كل ما تقدم يجعلنا ننبّه إلى حاجة مجتمعات الإسلام وأمة المسلمين إلى منظومة متماسكة من المرئيات قادرة على تحقيق تفاعلات تشمخ بقيمة المسلمين في الوجود.

هذه المنظومة المطلوبة نجدها مسطّرة في الوثيقة البيضاء الكتاب الأول وهي رباعية: مرئية العقل الذي يتفاعل مع تنوع الطائفيات الفكرية، ومرئية النفس التي تتفاعل مع تنوع الطبقيات الاجتماعية، ومرئية الروح الذي يتفاعل مع تعدد القوميات، ومرئية البدن الذي يتفاعل مع تعدد الإقليميات التضاريسية، ونخص بالتفكر – من هذه الرباعية – مرئية العقل لما يتسبب به تفاعلها من مشاكل وجودية.

تقول الوثيقة البيضاء: “التفاعل الأول: أن يتفهم عقله فوائد تنوع الطائفيات ليكون المشارك في كل تجمعاتها”..

إذن، تطرح الوثيقة البيضاء مفهوم “المشاركة”، وهو تفاعل إيجابي شامخ، يدل على قبول الآخر كما هو، ويكسر الغربة بين الجموع والتجمعات، ويمد جسور الائتلاف بين المختلف. فالمشاركة في المناسبات الكبرى والاحتفالات الدينية العامة وأيضاً المشاركة في الأفراح والأتراح تُلاحم بين الناس على المستوى الإنساني، فتتآلف مكونات المجتمع ويتسع بساط التعايش السلمي، وينعكس ذلك في ارتفاع بنيان المجتمع ووصول الخير إلى الجميع.

وهذه المرئية للعقل التي تشكل إطاراً جامعاً للاختلاف، لا يقدر على تحقيقها إلا صاحب هوية ناضجة حية مكتملة ومتماسكة، وقابلة لكل إيجابي عند الغير وللتفاعل الشامخ معه، ومتمكنة من التعايش السلمي مع المختلف.

 

المحور الرابع والأخير.. كيف نكتسب الهوية الإنسانية المكتملة والمتماسكة

هذه الهوية المتمكنة من التعايش السلمي مع المختلف هي حاجة اجتماعية وضرورة على مستوى الأمة، لأنها باكتمالها وتماسكها لا يوجد فيها فجوات ومداخل للاختراق وإعادة التشكيل.

ويرجع السبب في اكتمالها وتماسكها إلى أن صاحبها ارتبط – إيماناً وانتماءً – بشخص سيد الموحدين وزعيم المسلمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله المطهرين. فاستمد كل مكامن خواصه الذاتية من الكمالات المحمدية، فسيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله هو مصدر توجه اعتقاده، ومقصد وجهة إعقاله، وصائغ فاعليات مكوناته، وصانع تفاعلات مرئياته، ومحدّد طلب مشيئته، ودافع طاقة إرادته، وسيد مساحة وجدانه، وزعيم مسافة وجوده..

 

وختاماً نتوجه إلى الشباب ليتمحص في كل ما يسمع، ولا ينجذب لمن يحرك مشاعره الوطنية أو القومية أو الإيمانية أو التنموية، ويحرس منافذ الاختراق حتى لا تتسلل يد خفية فتصبغ مرئياته الشخصية وتصنعها وفق هواها في التطرف والتعصب والإقصاء حتى للأهل.

ونتوجه إلى أصحاب الهوية المنضبطة بالدين القويم، وهم غالبية الأمة، وندعوهم لإعمال الدور الثاني لسيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله في حياتهم، بالملازمة بين الارتباط والانضباط.. ليصبح صاحب دور فاعل على مستوى الأمة.

[1]الوثيقة البيضاء، الكتاب الثاني، الجزء الأول، ص 8.